الأربعاء، 28 أكتوبر 2009

الإخوان المسلمون والعلاقة بالسلطة




*بقلم/ محمد بن المختار الشنقيطي


محمد بن المختار الشنقيطي
لاتزال العلاقة بالسلطة السياسية من أكبر المعضلات التي تواجه حركة الإخوان المسلمين بمختلف تجلياتها عبر العالم. وتتجلى أبعاد هذه المعضلة في أمرين متناقضين:

واجب تغيير السلطة الفاسدة، باعتباره بندا من خطط أي حركة تغيير جادة.
وضرورة التعايش معها مرحليا، أخذا بدواعي المصلحة، وإقرارا باختلال ميزان القوة.
فالمواجهة بغير عدة انتحار، والتعاون مع السلطة المستبدة يؤثر سلبا على نقاء صورة الحركة ونصاعة خطابها. والترجيح يستلزم فقها خاصا، مبنيا على إدراك مقاصد الشرع ومناط المصلحة، وفكرا إستراتيجيا يحسن الموازنة في ظروف مرنة متغيرة، طبقا للحكمة التي عبر عنها عمرو بن العاص منذ أمد بعيد بقوله: "ليس العاقل هو الذي يعرف الخير من الشر، ولكن هو الذي يعرف خير الشرين"(1).

وليست الخيارات أمام حركة الإخوان المسلمين متسعة، نظرا لدكتاتورية السلط القائمة، ورفضها أي نوع من المنافسة السلمية النزيهة، وتواطؤ القوى الدولية التي لا تريد للحركات الإسلامية أن تعبر عن نفسها تعبيرا سياسيا يؤثر في واقع مجتمعاتها. وهكذا تبدو الخيارات في الأغلب محصورة في أمرين: "التعاون مع الأنظمة القائمة. أو القبول بدور المعارضة غير القانونية"(2).

لذلك يبدو خيار بناء علاقة سلمية مع السلطة خير الشرين في الظروف الراهنة. ويتضح أن المشاركة في السلطة -ما أمكن- أحسن من مواجهتها.

الحاجة إلى زيادة الخبرة ونقص الحماس
لقد لاحظ غراهام فولر –بحق- أن "أحد العيوب الرئيسية في الأنظمة الاستبدادية هو أنها تغلق سبل التجارب السياسية والنضج السياسي أمام الناس. فالإسلاميون بتركيزهم على موضوع الاستيلاء على السلطة رأسا -دون خطوات تمهيدية- لن تكون أمامهم فرصة لتعلم أي شيء عن المسار السياسي نفسه، بما فيه التفاوض والتنازل، وصناعة القرار، وتطوير قواعد إجرائية في ممارسة السلطة"(3).


أهم ما في العلاقة الطبيعية بالسلطة، والمشاركة في المعترك السياسي المحلي أنهما يمكنان الحركة من اكتساب خبرة عملية ويضمنان للحركة تطورا طبيعيا، دون طفرات مباغتة

كما لاحظ فولر "حاجة الإسلاميين إلى صياغة قواعد سياسية وتكتيكية ذات صلة بالواقع السياسي السائد. وهو أمر يتطلب استيعابا عمليا للمسرح السياسي. فالإلحاح على المبادئ العامة لا يغني شيئا، إذا تم تضييع فرص الاستفادة من الواقع السياسي والاجتماعي"(4).

لذا فإن أهم ما في العلاقة الطبيعية بالسلطة، والمشاركة في المعترك السياسي المحلي -على علاته– إنهما يمكنان الحركة من اكتساب خبرة عملية هي في مسيس الحاجة إليها للمستقبل، ويضمنان للحركة تطورا طبيعيا، دون طفرات مباغتة تؤذي مسيرتها، وتؤذي المجتمع برمته، كما حدث في تجربة "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" الجزائرية في التسعينات.

وأقل ما تثمره العلاقات السلمية بالسلطة والمشاركة فيها أنها تخفف من حماس الإسلاميين إذا وصلوا إلى قيادة مجتمعاتهم، وتجنبهم مساوئ الانتقال المفاجئ، التي قلما تسلم منها الثورات.

إن الثورة الإيرانية لما حصلت على نصر مفاجئ -وقوده الحماس وليس الخبرة- وانتقلت بإيران من النقيض إلى النقيض، من الشاه إلى الخميني -دون تمهيد كاف - جرها ذلك إلى ارتكاب أخطاء سياسية ودبلوماسية جسيمة –مثل احتجاز الرهائن الأميركيين- لاتزال تدفع ثمنها حتى اليوم.

خمس ثنائيات في التعاطي مع السلطة
ويتعين على حركة الإخوان المسلمين التعاطي مع عدد من الثنائيات الفكرية والسياسية المهمة، من أجل تحقيق تعاون مثمر أو تعايش مقبول مع السلطة في بلدانها. ومن هذه الثنائيات:

ثنائية القبول والرفض:
فأول ما يواجه الحركة في هذا المضمار هو تحدي التوفيق بين القبول بالسلطة كما تقتضي سياسة التعايش، ورفض شرعية هذه السلطة في ذات الوقت، وهي سلطة غير شرعية تسعى الحركة إلى إيجاد بديل عنها نهاية المطاف. إنها المعادلة الصعبة التي وصفها الدكتور جمال الدين عطية بأنها جمع بين "أسلوب العمل المتاح في ظل الأنظمة، وأسلوب العمل الرافض لأساس الأنظمة"(5).

ثنائية التغاضي والتبرير:
فالتعايش مع السلطة أو التعاون معها يقتضي التغاضي عن بعض الأمور، دون تبرير لها. لكن الحدود بين التغاضي والتبرير غير واضحة تماما لبعض الإخوان. ولعل تجربة حركة "حمس" الجزائرية اليوم غير بعيدة من هذا المنحى، حيث طغت الاعتبارات الشخصية والحزبية على تفكير الشيخ محفوظ نحناح وبعض أتباعه من الإخوان الجزائريين، فوقفوا موقفا تبريريا من مصادرة حق الشعب الجزائري في الاختيار، واضطهاد القوى الإسلامية والوطنية التي خالفتهم منحاهم السياسي.

ثنائية المعارضة والمواجهة:
فالمعارضة لا تعني بالضرورة مواجهة، وكل اختلال غير محسوب في هذه المعادلة قد يؤثر آثارا سيئة على الحركة وعلى المجتمع. لكن هذه المعادلة غابت –فيما يبدو- عن بال حركة الإخوان المسلمين في سوريا مطلع الثمانينات، فقادها ذلك إلى صراع مدمر مع السلطة. وهو خلط ليس خاصا بهذه الحركة على أية حال، كما لاحظ الدكتور النفيسي في قوله : "ثمة خلط واضح في صفوف الحركة الإسلامية بين مفهوم "المعارضة للسلطة"، ومفهوم "الصراع مع السلطة" (6).

ثنائية الإستراتيجية والتكتيتك:
والمقصود بها الموازنة بين أهداف الحاضر التكتيكية وأهداف المستقبل الإستراتيجية، وهو أمر يستلزم حسا عمليا عميقا، لا تملكه بعض القيادات الإخوانية التي تنشغل أحيانا بأهداف "من شدة ضخامتها تصبح مبهمة"(7). فالتعايش مع الحكام في سبيل إيجاد بديل عنهم، يرجع في النهاية إلى مبدأ الموازنة هذا. لكن المتتبع لجماعات الإخوان المسلمين يجد أن أكثرها لم تفلح في مثل هذه الموازنة.

ثنائية الخطاب والفاعلية:
فبعض من جماعات الإخوان المسلمين تتحرج من التحالف مع حاكم غير إسلامي، أو قوى سياسية وطنية، حرصا على الصورة الزاهية لرجالها، وتهدر الكسب الإستراتيجي الذي قد يثمره ذلك في المستقبل. فحينما طلب الحكم الناصري من المرشد العام للإخوان – الهضيبي- ترشيح أفراد منهم للمشاركة معه في السلطة رفض الاشتراك إلا أن يكون الحكم إسلاميا 100%، ورشح لهم بعض الكفاءات من غير الإخوان (8). وقد دعا الدكتور حسان حتحوت هذه الظاهرة "عبادة الصورة". وهي في جوهرها عجز عن التوفيق بين دواعي الدعوة والخطاب ودواعي الفاعلية السياسية.

لقد شهد تاريخ الإخوان مدا وجزرا في التعامل مع هذه الثنائيات، ونجاحا وإخفاقا في ذلك، بحسب الفكر السائد، والقيادة المسيطرة، والظروف المحيطة.

من فكر الاكتساب إلى فكر المفاصلة
كان حسن البنا رجلا متفائلا مقداما بطبيعته، يؤمن بالاكتساب والاستيعاب. ولم ينظر إلى الأنظمة الحاكمة تلك النظرة التشاؤمية التي ظهرت لدى بعض أتباعه فيما بعد. بل كان يدرك أن لا مجال للفكر الإطلاقي في العمل السياسي، ولا وجود في السياسة لخير مطلق وشر مطلق، وإنما يتعين التفاعل مع الموجود ودفعه للأحسن. وقد بذل حسن البنا جهدا مضنيا للتأثير على الملك الشاب (فاروق) الذي وجده أفضل من سلفه، وحاول احتواءه. بل لم يستبعد البنا -في إحدى المقابلات- أن يعينه فاروق رئيسا للوزراء، ويتبنى برنامجه السياسي.

كما كان البنا حريصا على عدم المفاصلة مع القوى السياسية الأخرى، والتيارات الفكرية والإيديولوجية المخالفة، ومن هنا تأكيده المتكرر أن الفكرة الإسلامية ليست نقيضا للفكرة القومية أو الوطنية، وحرصه على مد جسور التفاهم والاتصال مع السلطة حتى في أوج الأزمة التي انتهت باغتياله.

وما يقال عن حسن البنا يمكن أن يقال عن الدكتور مصطفى السباعي مؤسس حركة الإخوان في سوريا، فقد برهن الرجل على حنكة ومرونة سياسية وفكرية، وإيجابية في التعامل مع السلطة، ومشاركة جدية في المسار السياسي.

لكن أجواء الاستقطاب الإيديولوجي والسياسي التي سادت في الستينات والسبعينات، جعلت الإخوان في أغلب الدول العربية يتجهون وجهة مغايرة لنهج حسن البنا في الاكتساب والاستيعاب، والتعاطي الإيجابي مع السلطة والمجتمع، ويميلون إلى فكر المفاصلة والمجانبة، والتمحور حول الذات، وسوء الظن بالدولة وبالمجتمع.
لقد أصيبت حركة الإخوان في هذه الحقبة بداء الفكر الإطلاقي الذي لا يولي اعتبارا للواقع العملي، بل ينشغل بالتغني بالمبادئ الجليلة، دون تفكير في المناهج العملية التي تخدم تلك المبادئ.


الفكر الإطلاقي الذي تجسد في كتب سيد قطب المتأخرة، هو فكر يريح الضمير لكنه لا يقود إلى العمل، إنه إدانة للواقع الظالم لكنه ليس سعيا لتغييره.

والفكر الإطلاقي الذي تجسد –أكثر ما تجسد- في كتب الشهيد سيد قطب المتأخرة، هو فكر يريح الضمير لكنه لا يقود إلى العمل، إنه إدانة للواقع الظالم لكنه ليس سعيا لتغييره. ولم تكن تلك طريقة حسن البنا، الذي كان رجلا عمليا، وكان يوصي أتباعه بذلك، وقد عبر عن ذلك بصيحاته المتكررة: "كونوا عمليين لا جدليين"(9).

وقد أورث الاتجاه العملي عند البنا تفاعلا مع جهد الحركة ورسالتها، وبناء سمعة سياسية لها في الدولة والمجتمع، بينما كان للفكر الإطلاقي لدى سيد قطب ثمرة مناقضة تماما. وهو أمر أدركه المستشار طارق البشري بعمق، ووصفه ببلاغة في قوله: "إن سيد قطب صاحب فكر يختلف كثيرا عن فكر حسن البنا رحمهما الله … فكر حسن البنا فكر انتشار وذيوع وارتباط بالناس بعامة، وهو فكر تجميع وتوثيق للعرى. وفكر سيد قطب فكر مجانبة ومفاصلة، وفكر امتناع عن الآخرين. فكر البنا يزرع أرضا، وينثر حبا، ويسقي شجرا، وينتشر مع الشمس والهواء. وفكر سيد قطب يحفر خندقا، ويبني قلاعا ممتنعة عالية الأسوار"(10).

إن حَمَلة الفكر الإطلاقي يغفلون في العادة عن قضية عملية مهمة، هي أن عدم شرعية أي نظام سياسي، لا تعني بالضرورة عدم شرعية أفعاله. فمسألة بناء السلطة تختلف عن مسألة أدائها، والتعاون مع سلطة غير شرعية فيما تقوم به من أعمال شرعية أمر سائغ. وتلك إشكالية عملية حسمها الفكر الإسلامي منذ حرب (صفين) منتصف القرن الأول الهجري، حينما وجد الناس أنفسهم مضطرين إلى التعايش مع الملك العضوض.

ولذلك فإن الشرع المبني على جلب المصالح ودفع المفاسد، والحياة المعاصرة المتشابكة الأوجه والمظاهر، والتحديات التي تواجهها الأمة من الخارج، والاختلالات العميقة التي تعاني منها. كلها أمور تفرض نوعا من الواقعية السياسية، التي تتعايش مع الظلم سعيا إلى تغييره، وتتغاضى عن بعض الشر تجنبا لما هو شر منه.

والذين يتبنون المواجهة الهوجاء مع الحكام ينسون أن إشعال الحرب أمر سهل، لكن كسبها ليس كذلك. وقد صور الشاعر اليمني عبد الله البردوني ذلك، وهو يتأمل مصائر بعض الحركات الثورية العربية، فقال:

والأُباة الذين بالأمس ثـاروا أيقظوا حولنا الذئاب ونامـوا
حين قلنا قاموا بثورة شعـب قعدوا قبل أن يُرَوْا كيف قاموا
ربما أحسنوا البدايات، لكـن هل يحسون كيف ساء الختام؟ (11)

كما أدرك ذلك الحكيم الأفريقي (نلسون مانديلا) فقال: "الثورة ليست مجرد الضغط على الزناد، ولكنها حركة تهدف إلى إقامة مجتمع العدل والإنصاف" (12).

مثالان مختلفان في العلاقة بالسلطة
نورد فيما يلي تجربتين مختلفتين في العلاقة بالسلطة لدى جماعتين مختلفتين من جماعات الإخوان، انطلقت إحداهما من فلسلفة حسن البنا الاكتسابية الاستيعابية، وتأثرت الأخرى بفكر المفاصلة والمجانبة لدى سيد قطب، وبظروف قهر ومحنة لا تنمي روح الاعتدال والواقعية.

أولا: عبد الناصر والإخوان في مصر
اعتاد الإخوان في مصر أن يكتبوا عن علاقتهم بعبد الناصر بعقلية "الجبرية الأموية" أو "الكربلائية الشيعية" وهما وجهان لتصور واحد، ينطلق بأن ما كان هو حدود الإمكان، وأن لا مجال للنقد والمراجعة. ولا مكان في هذه الكتابات لفكرة "الإمكان التاريخي"، ولا مجال فيها للتمييز بين الخطأ والخطيئة. فضاعت على الإخوان -في مصر أولا، ثم في كل أرجاء العالم- فرصة الاعتبار بالأخطاء التي قادت إلى أكبر محنة في التاريخ الإسلامي المعاصر.

وانشغل كتاب الإخوان بالحديث عن خطيئة عبد الناصر في اضطهاد الحركة، عن أخطاء التقدير السياسي والإستراتيجي التي ارتكبها قادة الحركة من غير وعي بها، ولا إدراك لما يترتب عليها، فساعدت على الدخول في الورطة، وفوتت على الحركة فرصا عظيمة للازدهار والتمكين.

لقد كانت فرص الإخوان المصريين في التفاهم مع سلطة "الضباط الأحرار" واحتوائها – أو تحييدها واجتناب شرها على الأقل – فرصا عظيمة. فالإخوان شركاء في الثورة يومذاك، ولهم وجود معتبر بين الضباط حينها، كما أن قادة الثورة المصرية ابتدؤوا حكمهم متحمسين للتفاهم مع (الإخوان) تقديرا لجهدهم في الثورة، وسعيا إلى احتواء قوتهم السياسية والعسكرية، وتوظيفها ضد ذيول السلطة الملكية.

كانت علاقة الإخوان بالثورة المصرية مثل علاقة الشيوعيين السودانيين بثورة النميري. هم شركاء في الثورة، وحلفاؤها الطبيعيون، مع التحفظ منهم والسعي إلى احتوائهم، ضمن التنافس الداخلي بين الأجنحة والرجال الأقوياء في التشكيلة القيادية الجديدة. والمؤسف أن الإخوان في مصر ارتكبوا نفس الأخطاء الإستراتيجية والتكتيكية التي ارتكبها الشيوعيون السودانيون بقيادة عبد الخالق محجوب. فقد اشترط عبد الخالق محجوب على النميري "اشتراكية كاملة" للمشاركة معه في السلطة، واشترط الهضيبي على عبد الناصر "أن يكون الحكم إسلاميا 100%"، وكأن الحكم الإسلامي مجرد قرار فوقي تتخذه سلطة تائبة، وليس مسارا متدرجا وطريقا طويلا يقطعه رجال يحملون مبادئ الإسلام بصبر وإيجابية وتفاعل مع الواقع المنحرف.
لقد سقط الإخوان آنذاك ضحايا فكر إطلاقي لا يعترف بالتدرج أو الحلول الوسط، وخلطٍِ بين الأهداف المرحلية والمستقبلية، ونقصٍ في إدراك الواقع السياسي بكل تفصيلاته وملابساته:

فوقفوا إلى جانب محمد نجيب ضد عبد الناصر، دون إدراك لميزان القوة داخل القيادة العسكرية المصرية، فكان رهانهم خاسرا.
وعارضوا اتفاقية "الجلاء" مشاكسة لعبد الناصر، مما منحه ذريعة لاتهامهم بالعمالة للاستعمار وقمعهم بقسوة.
ورفضوا الاشتراك في السلطة، رغم أنه كان كفيلا بترسيخ وجودهم وقوتهم السياسية، وأهم من ذلك أنه سيحميهم من بطش ثورة فتية مضطربة.
تلكم بعض أخطاء التقدير والمزالق السياسية التي وقعت فيها قيادة الإخوان في علاقاتها بالثورة الناصرية، والحديث عنها أكثر فائدة وأكبر ثمرة للإخوان من الحديث عن طغيان عبد الناصر واستبداده، إذا كانوا يرغبون في اكتساب الخبرة واستخلاص العبرة للمستقبل.

ثانيا: النميري والإخوان في السودان
ربما كانت تجربة الإخوان المسلمين في السودان أثرى التجارب الإسلامية في التعامل مع السلطة، فقد اعتمد الإخوان السودانيون منهجا إيجابيا في العلاقة بالسلطة، اختلفت صور التعبير عنه من المواجهة الشعبية إلى التحالف الوثيق، ومن الغزو الخارجي إلى الاختراق الداخلي، ومن منابر البرلمانات والجامعات إلى ثكنات الجيش والأمن. وفي كل هذه الأحوال ظل منهج الحركة مطبوعا بالجرأة والواقعية والمرونة. لكن تحالف حركة الإخوان في السودان مع النميري يمثل ظاهرة خاصة في حجمها ومداها وأثرها على تطور الحركة اللاحق. ولذلك نخصها بالحديث هنا.

وصل النميري إلى السلطة عام 1969وكان –أول عهده– مفتونا بالتجربة الناصرية بمصر، ميالا إلى الفكر اليساري، فسمى مجلسه العسكري باسم "الضباط الأحرار"، وأسس "اتحادا اشتراكيا سودانيا" يطمح إلى احتواء القوى السياسية الأخرى، على طريقة "الاتحاد الاشتراكي العربي" الذي أسسه عبد الناصر، وأصدر كتابا باسم "الميثاق الوطني" على شاكلة كتاب "فلسفة الثورة" لعبد الناصر.

وكان النميري أول رئيس سوداني فتح الباب أمام المستشارين السوفيات (13) "وبلغ ذلك (التوجه اليساري) قمته في احتفال البلاد بالعيد المئوي لميلاد لينين، في أبريل 1970" (14). وأهم من ذلك من الناحية السياسية أن النميري لم يكن أول عهده يخفي عداءه للإسلاميين السودانيين. فلا غرابة أن اصطدمت حركة الإخوان المسلمين في السودان بنظام النميري من أول يوم.

لكن النميري لم يكن يساريا عقائديا، بقدر ما كان رجلا قُلَّبا، يدور مع التوجهات السياسية في القاهرة حيثما دارت. فانتقل من اشتراكية عبد الناصر إلى رأسمالية السادات، ومن التحالف مع السوفيات –على طريقة عبد الناصر- إلى التحالف مع الأميركيين على طريقة السادات. ومن استئصال الإسلاميين بالتعاون مع الشيوعيين كما فعل عبد الناصر، إلى التفاهم مع الإسلاميين لاستئصال الشيوعيين كما فعل السادات. ومن إعلان الحرب على إسرائيل -عبر لاءات الخرطوم الشهيرة- أيام عبد الناصر، إلى التواطؤ معها في تهجير "الفلاشا" تجاوبا مع "كامب ديفد" السادات.


وجد الإخوان السودانيون –بعد ثمانية أعوام من الصراع الدموي– فرصة للتقارب مع النميري، بعد خلافه مع حلفائه اليساريين، ومحاولتهم الانقلاب عليه بقيادة الرائد هاشم العطا فقرروا المصالحة معه وتجاوُز الماضي المرير في العلاقة به

ومع ذلك وجد الإخوان السودانيون –بعد ثمانية أعوام من الصراع الدموي– فرصة للتقارب مع النميري، بعد خلافه مع حلفائه اليساريين، ومحاولتهم الانقلاب عليه بقيادة الرائد هاشم العطا يوم 19/7/1971 فقرروا المصالحة معه وتجاوُز الماضي المرير في العلاقة به. فأنتج ذلك ثمانية أعوام من التحالف الصعب، لكنه المثمر سياسيا بالنسبة للإخوان في السودان.

وقد نجحت حركة الإخوان في السودان في جني ثمرة ذلك التحالف على جبهات عدة، منها: النمو والامتداد السريع في قاعدتها، واكتساب خبرة ومراس سياسي وإداري، وبناء قاعدة مالية قوية، واختراق الجيش والأمن.

وحينما آذى النميري حلفاءه من الإخوان بالحرب، وزج بهم في السجون يوم 10 مارس 1985 كانت الحركة قد قطفت ثمار المصالحة كاملة غير منقوصة، ورسخت قدمها في الدولة والمجتمع بشكل لا يمكن اجتثاثه. فلم تكن تلك الاعتقالات نهاية الحركة –كما أراد النميري– بل كانت نهاية النميري نفسه، الذي لم تتجاوز فترة حكمه بعدها شهرا واحدا.

ثغرة في الطريق المسدود
لقد رأينا كيف ساد الفكر الإطلاقي وسوء الظن بالسلطة والمجتمع تفكير الإخوان في الستينيات والسبيعنيات –مع استثناء الحالة السودانية- لكن الثمانينات شهدت تطورا جديدا في تفكير الإخوان المسلمين تجاه التعامل مع الأنظمة الحاكمة، وفي تفكير الأنظمة في تعاملها مع الإخوان. فقد كانت موجات الاضطهاد في السجون المصرية، ثم القمع الساحق على أيدي القوات السورية دروسا مريرة للإخوان، أدركوا من خلالها أن الدولة المعاصرة بشموليتها وقسوتها، لا يمكن تغييرها من خارجها أو تحديها بالقوة.

كما أدرك الحكام أن الإخوان -بثباتهم ومصابرتهم على الاضطهاد- لا يضرهم القمع ولا يستأصلهم، بل يزيد أنصارهم وأتباعهم كل يوم، ويرسخ وجودهم في المجتمع، شأن جميع حركات التغيير ذات الجذور الضاربة في ثقافة الشعب وتاريخه.
وهكذا توصل الطرفان –وإن بطرق مختلفة– إلى نفس النتيجة، وهي فشل سبيل المواجهة، فانفتحت بذلك ثغرة في الطريق المسدود.

ومنذ ذلك التاريخ يحاول الإخوان إيجاد موطئ قدم لهم في المعترك السياسي، متجاوزين كل تراث التحفظ الماضي، ومادين أيديهم للتفاهم مع القوى الوطنية الأخرى، ومع الأنظمة الحاكمة، ومستعدين لدفع الثمن السياسي الذي تقتضيه سياسة التعايش. وقد تجلت هذه الظاهرة في نموذج سياسي وفكري جديد، عماده الإيجابية والتفاعل مع السلطة، بدلا من القنوط منها واعتزالها. فخاضت حركة الإخوان في مصر انتخابات مجلس الشعب في الثمانينات تحت مظلة "حزب الوفد الجديد"، ثم تحت راية "حزب العمل الاشتراكي" فيما بعد. ثم جاءت الأعوام التالية بمزيد من الإيجابية والمشاركة في مصر وفي دول أخرى عدة، لتؤكد أصالة هذا التطور وعمقه في تفكير الإخوان وسلوكهم السياسي.

ففي اليمن دخل الإخوان تحالفا إستراتيجيا مع الرئيس علي عبد صالح بدأ في "المؤتمر الشعبي العام" لما كان حزبا وحيدا، واستمر في عهد التعددية. ويقود الإخوان في اليمن الآن حزب "التجمع اليمني للإصلاح".

وتتأسس إستراتيجية الإخوان في اليمن على معادلة دقيقة، تتمثل في دعم شخص الرئيس علي عبد الله صالح بقوة، ومعارضة حزبه باستماتة. ومن طرائف هذه المعادلة ما شهدتُه بنفسي في صنعاء عام 1998، حينما أعلن "التجمع اليمني للإصلاح" –وهو حزب المعارضة الرئيسي- ترشيحه الرئيس علي عبد الله لفترة رئاسية جديدة، قبل أن يعلن حزب الرئيس نفسه إعادة ترشيحه. وقد أفادت هذه العلاقة الطرفين. فقد ضمنت للرئيس صالح موقع "الملك"، وضمنت للإخوان موقعا سياسيا متميزا. كما أفادت الدولة اليمينة ذاتها، فقد استطاع الطرفان أن يقفا في وجه الانفصال عام 1993 بفضل هذا التحالف.

وفي الأردن سار الإخوان على نفس النهج مع الملك حسين طيلة فترة التسعينات، لكن علاقتهم مع وريثه الملك عبد الله اتسمت بالفتور في الغالب، والصدام أحيانا، إذ لم يظهر الملك الجديد من سعة النفس والدهاء والقدرة على الاحتواء ما كان أبوه يتسم به.

لقد قبل الإخوان منذ الثمانينات بالأنظمة القائمة واقعا سياسيا، وبدأت بعض الأنظمة تقبل بوجود الإخوان منافسا شرعيا، ويبقى طرف ثالث لا يقل أهمية وأثرا، وهو القوى الدولية ذات النفوذ على قادة الدول العربية والإسلامية. وربما تكون أحداث 11 سبتمبر، ومخاطر تحول الظاهرة الإسلامية إلى قوة عسكرية، تؤمن بالقتال سبيلا للمنازلة السياسية، دافعا للقوى الدولية لإعادة النظر في موقفها العدائي من حركة الإخوان المسلمين، ومن على شاكلتها من القوى الإسلامية المؤمنة بالتدافع السلمي. ولعل في تقدم الإسلاميين في الانتخابات الأخيرة في المغرب والبحرين وباكستان وتركيا ما يزكي هذا الاستنتاج.

ومهما يكن من أمر، فإن موضوع علاقة الإخوان المسلمين بالسلطة سيكتسب أهمية أكبر في المستقبل، فقد اقتنع الحكام وظهيرهم الدولي بأن القمع المباشر لا يفيد، وأن التضييق الكامل قد يولد انفجارات غير محسوبة، وبدأت إستراتيجية الاحتواء والترويض تظهر في كل مكان. وستتوقف طبيعة الثمرات على مستوى إدراك الإخوان المسلمين لأبعاد اللعبة، واستيعاب مقتضياتها، والتعامل معها بإيجابية وإقدام.
_______________
* كاتب موريتاني مقيم في الولايات المتحدة
- المصادر:
1- الذهبي (محمد بن أحمد بن قايماز): سير أعلام النبلاء 3/74، تحقيق شعيب الأرنؤوط ومحمد نعيم العرقسوسي، ط مؤسسة الرسالة 1413 هـ.
2- (Graham Fuller : Islamism in the Next Century (in the Islamism Debate p. 147 Moshe Dayan’s Center for Middle-Eastern and African Studies, Tel-Aviv University 1997)
3- Graham Fuller : Islamism in the Next Century p. 148
4- Graham Fuller : Islamism in the Next Century p. 148
5- نقلا عن د. عبد الله النفيسي "مستقبل الصحوة الإسلامية" ضمن كتاب "الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي" ص 329 ندوة لمجموعة من المؤلفين، إصدار مركز دراسات الوحدة العربية، ط ثانية، بيروت 1989.
6- من تقديم النفيسي لكتاب "الحركة الإسلامية، رؤية مستقبلية، أوراق في النقد الذاتي" ص 26 لمجموعة من المؤلفين ط أولى، مكتبة مدبولي، القاهرة 1989.
7- صلاح الدين الجورشي: "الحركة الإسلامية مستقبلها رهين التغييرات الجذرية" (ضمن كتاب الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية، أوراق في النقد الذاتي ص 137).
8- عبد المتعالي الجبري: لماذا اغتيل الإمام الشهيد حسن البنا؟ حقائق جديدة ووثائق خطيرة ص 173, ط ثانية، دار الاعتصام، القاهرة 1978.
9- مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا, ص 232.
10- طارق البشري: "الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر" (ضمن كتاب "الحركة الإسلامية، رؤية مستقبلية ص 173).
11- عبد الله البردوني: ديوان لعينيْ أمِّ بلقيس (ديوان شعري) ص 73, ط تاسعة 1984.
12- نلسون مانديلا: رحلتي الطويلة من أجل الحرية ص 294، ترجمة عاشور الشامس، ط أولى، موريس بورغ، جنوب أفريقيا 1998.
13- Edgar O’balance : the Secret War in the Sudan 1955-1972 p. 105
14- د. حسن مكي: الحركة الإسلامية في السودان (1969-1985) ص 37، ط ثانية، الدار السودانية للكتب، الخرطوم 1999.

هل أصبحت دارفور قبرا للحلم الإسلامي في السودان؟


هل أصبحت دارفور قبرا للحلم الإسلامي في السودان؟
محمد بن المختار الشنقيطي

الجزيرة نت 15/04/2009

من فقه الحركة إلى فقه الدولة

الترابي والبشير وصراع السلطة
الحركة الإسلامية ومحنة دارفور

من حق أهل دارفور على الشعوب العربية والإسلامية أن تتعاضد معهم في وجه نظام الرئيس عمر حسن البشير والكوارث التي جرها على شعبه عمدا وإهمالا. بيد أن الناس في عالمنا العربي الإسلامي اعتادوا على العداء العاطفي لكل المبادرات الغربية في بلادهم، والنظر بريبة إلى كل حديث غربي عن تحقيق العدالة والإنصاف. وهو أمر يرجع إلى ما اعتادوه من الغربيين من التطفيف والازدواجية.
ومن هذا النزوع إلى الرفض العاطفي غير المؤسَّس على إدراك لتفاصيل الواقع التنكرُ الساذج لما ثبت بالمعاينة والتواتر من جرائم الحرب في دارفور، وكأن ضحاياها ليسوا بشرا يستحقون العطف والمواساة.
ومن أسباب هذا الموقف أن حكومة السودان تقدم نفسها باعتبارها "حكومة إسلامية" ومن الذي لا يتعاطف مع حكومة إسلامية ضد العدوان الغربي؟! بيد أن هذا المنزع العاطفي يغطي وراءه حقيقة برودة مشاعرنا تجاه ضحايا القمع والاستبداد السياسي في بلادنا، فنقع بحسن نية وطوية في ذات الازدواجية والتطفيف الذي نرفضه من الغربيين.
إن الصراع في دارفور عميق الجذور، وهو في أصله صراعان: أحدهما صراع على الموارد الشحيحة بين العرب الرحل والأفارقة القرويين من سكان جبل مرة، والثاني صراع بين الطامحين من أبناء دارفور إلى توزيع أعدل للسلطة والثروة وبين الحكومة المركزية في الخرطوم.
لكنَّ تحوُّل هذا الصراع -في ظل حكم الحركة الإسلامية السودانية- من مناوشات تقليدية إلى حرب طاحنة، ومن حرب موارد إلى صراع هوية يدعو إلى التأمل حقا.
فما هي العلاقة بين تفجر الصراع السنوات الأخيرة وبين التجربة الإسلامية السودانية التي بدأت بانقلاب عمر البشير عام 1989؟ وما مدى مسؤولية الإسلاميين في معسكريْ البشير والترابي عن إشعال الصراع واستمراره؟ وما هي دلالة هذا الصراع المدمر على مصير التجربة الإسلامية السودانية، وهي التجربة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس وبعثت الآمال العريضة في يوم من الأيام؟
من فقه الحركة إلى فقه الدولة
"السبب في فشل الإنقاذ في رسالتها هو تخلف فقه الدولة عن فقه الحركة لدى الإسلاميين السودانيين, فلم تنجح تجربة إسلامية على مستوى الحركة كما نجحت التجربة السودانية، ولم تخفق تجربة إسلامية على مستوى إدارة الدولة كما فشلت تلك التجربة "لم يكن نجاح الإسلاميين السودانيين في الاستيلاء على السلطة عام 1989 صدفة عابرة، أو ضربة حظ وافر، بل كانت ثمرة تطور منهجي في الحركة الإسلامية السودانية على مر السنين: في وعيها العام، وبنيتها الهيكلية، وبنائها القيادي، وعملها في المجتمع، وعلاقتها بالسلطة، وعلاقتها بالحركات الإسلامية.. وهو ما جهدتُ في تقديم عبرته معتصَرة ومختصَرة في كتابي عن "الحركة الإسلامية في السودان.. مدخل إلى فكرها الإستراتيجي والتنظيمي".
لكن نجاح الثورة أكبر من مجرد استلام السلطة، والنجاح الفني ليس معيارا للنجاح المبدئي، خصوصا إذا كان أهله يحملون رسالة أخلاقية، تهدف إلى تحرير الناس لا إلى إخضاعهم.
وفي بلد كالسودان، متسع الأرجاء، ممزق الأحشاء، أنهكته الحرب الأهلية، وهددت فيه الحاجة إنسانية الإنسان، كان على الثورة الجديدة أن تتحمل أعباء زائدة، ومسؤوليات أخلاقية وإنسانية جسيمة، لم تواجه كل الثورات. ومن أهم تلك التحديات كما لخصتها في ختام كتابي المذكور عام 2001:
* أن على هذه السلطة أن تكف عن كونها حركة، وتقتنع بأنها أصبحت دولة، بكل ما يعنيه ذلك من دلالات سياسية وأخلاقية.
* وأن تسعى لإطعام الإنسان السوداني من جوع، وتأمينه من خوف، باعتبار ذلك أهم بند في رسالتها، وأول خطوة على طريق البناء.
* وأن تبني شرعية سياسية على غير القوة والإكراه، فلا خير في سلطة تستمد شرعيتها من القوة حصرا، ولا مجال لاعتماد فقه الضرورات إلى الأبد.
* وأن توقف النزف الإنساني الذي سببته الحرب الأهلية، لا بدماء الشباب المتعطش للجهاد والشهادة، بل بحكمة السياسة، ومنهج الحوار والتعايش.
* وأن تدرك أن جسم الدولة متسع للجميع، بخلاف جسم الحركة، فالعجز عن احتواء واستيعاب المجتمع، معناه العجز عن تغيير المجتمع.
* وأن تعرف أن الحلول الفنية -على أهميتها وحاجة العمل الإسلامي إليها- لا تكفي. فالدولة الإسلامية دولة فكرة ومبدأ، قبل أي شيء آخر.
* وأن تعترف بموقعها الحرج في المكان، إقليميا ودوليا، فتتحمل مسؤوليتها بوضوح، وتنأى بنفسها عن أسلوب المغامرات والمهاترات والتخبط والتورط.
* وأن تعترف بموقعها الحرج في الزمان -حاملة لراية الإسلام أيام غربته- فتعضد ذلك بمزيد من الإقدام والتوكل والحكمة والدراية.
وبالنظر إلى الوراء عقدين من الزمان أعترف أن ثورة الإنقاذ فشلت فشلا ذريعا في رسالتها، وخيبت آمال الكثيرين ممن علقوا عليها بعض الآمال، وأنا منهم. كما أعترف أن حرب دارفور لخصت هذا الفشل أبلغ تلخيص.
وإذا كان لنا أن نجد تفسيرا فكريا لهذا الفشل يفترض حسن المقاصد، فهو تخلف فقه الدولة عن فقه الحركة لدى الإسلاميين السودانيين. فلم تنجح تجربة إسلامية على مستوى الحركة كما نجحت التجربة السودانية، ولم تخفق تجربة إسلامية على مستوى إدارة الدولة كما فشلت التجربة السودانية.
لكن التفسير الفكري لا يفسر كل شيء، فهنالك عنصر أخلاقي قد يفوق العنصر الفكري في أهميته، وتخلف هذا العنصر الأخلاقي في تجربة الإنقاذ هو الذي يفسر محنة دارفور، ويدين العديد ممن قادوا تلك التجربة ومن اتبعوهم.

الترابي والبشير وصراع السلطة
"التدهور الذي وقع في إقليم دارفور كان نتيجة سلسلة أخطاء مميتة، بدأت بإساءة إدارة الوضع السياسي وممارسة الإقصاء في حق أهل دارفور، ومرت عبر العجز عن التصدي للتمرد المسلح، ومحاولة مداراة هذا العجز أو تداركه عبر تشجيع الفوضي والإجرام"منذ أن اندلعت الحرب الأهلية في دارفور عام 2003 ظهرت مراجعات فكرية مهمة لمسار الحركة الإسلامية السودانية، فجر شرارتها د. التجاني عبد القادر –وهو من القادة السابقين في الحركة- في مقالات نقدية عميقة تحمل عناوين ذات دلالة، منها ثلاثة مقالات بعنوان: "العسكريون الإسلاميون أمناء على السلطة أم شركاء فيها؟" ومقالان بعنوان "الرأسماليون الإسلاميون" واثنان آخران بعنوان "إخواننا الصغار ومشاريعهم التوسعية الكبرى".. وشارك في نقاش تلك المقالات عدد من قادة الحركة السابقين والحاليين، منهم د. عبد الوهاب الأفندي، والشيخ إبراهيم السنوسي، ومحمد الأمين خليفة أحد قادة ثورة الإنقاذ الذين لحقوا بالترابي بعد الانفصام بينه وبين البشير.
ويمكن للمراقب من بعيد مثلي أن يستخلص من تلك المطارحات والردود –ومما تيسر من محاورات مباشرة مع أنصار كل من الترابي والبشير- ملامح ما حصل داخل أحشاء الحركة فتولدت عنه محنة دارفور.
كتب د. عبد الوهاب الأفندي ملخِّصا أسباب الحرب في دارفور فقال "إن التدهور الذي وقع في إقليم دارفور كان نتيجة لسلسلة أخطاء مميتة، بدأت بإساءة إدارة الوضع السياسي وممارسة الإقصاء في حق أهل دارفور، ومرت عبر العجز عن التصدي للتمرد المسلح، ومحاولة مداراة هذا العجز أو تداركه عبر تشجيع الفوضي والإجرام، وأخيرا العجز والتخبط في إدارة الكارثة التي نتجت وذيولها الدولية." وهذا تلخيص دقيق وحكم صائب، وإن لم يعط الخلفية التاريخية التفصيلية، خصوصا في شقها المتعلق بالحركة الإسلامية.
إن الجذور الاجتماعية للصراع في دارفور كانت موجودة دائما، مثلها مثل الكثير من الصراعات الكامنة في دول العالم الثالث، لكن تفجُّر الصراع التقليدي إلى حرب إبادة وتهجير بدأ ببداية الصراع بين الترابي والبشير.
فقد كانت خطة الحركة الإسلامية في السودان بعد استيلائها العسكري على السلطة أن تُخرج انقلابها بواجهة وطنية لا إسلامية، ثم تتدرج خلال ثلاثة أعوام من "التأمين" إلى مرحلة "التمكين" التي تذوب فيها الحركة في الدولة، وتكشف عن وجهها الإسلامي سافرا، بما في ذلك تسليم العسكريين السلطة للمدنيين وتقلُّد د. الترابي منصب رئاسة الدولة.
وظل نوع من التوازن يحكم العلاقة بين جناح الترابي وجناح البشير في السلطة، من خلال تقاسم الأمور في سلطة ذات رأسين يقود كل من الرجلين أحد رأسيها. كان الترابي يقود الحركة الإسلامية وهي بمثابة حكومة مدنية خفية، وكان البشير يقود الحكومة العسكرية العلنية.
ثم بدأ اتجاه داخل العسكريين وبمساندة من بعض المدنيين داخل الحركة يميل إلى احتفاظ البشير بالسلطة وإقصاء الترابي، واستطاع هذا الاتجاه أن يكسب المعركة بعد إقدام الترابي –ثقة منه في العسكريين الذين رباهم وأطَّرهم- على ارتكاب خطإ إستراتيجي، وهو حل أجهزة الحركة التي كانت تمثل مصدر القرار والشرعية الداخلية. ويومها بدأ الانشقاق المعروف بين البشير والترابي عام 1999، وكانت الغلبة للبشير بعد أن تخلى الترابي –طوعا وغفلة- عن سنده بحل الحركة.
"كان من الممكن للحركة الإسلامية السودانية أن تسير في ختام مرحلة "التأمين" في أحد مسارات ثلاثة: الأول أن يتخلى العسكريون عن السلطة, والثاني أن تجد الحركة الإسلامية مكانا لطرفيها المختلفين في إدارة الدولة, والثالث إقصاء العسكريين لإخوانهم المشاركين لهموانضم الإسلاميون المنحدرون من دارفور في غالبيتهم الساحقة إلى جناح الترابي، ربما لأنه كان مساندا لفكرة المركزية الإدارية وتقوية الحكومات المحلية، وهو ما عمق الحنق عليهم من طرف الرئيس البشير وجناحه.
وكان من الأخطاء الفادحة التي ارتكبها الرئيس البشير تصفية الجيش والأمن من الضباط الإسلاميين المنحدرين من دارفور، ربما خوفا من أن يستخدمهم الترابي ضده، كما استخدمه هو ضد الصادق المهدي. لكن هؤلاء سرعان ما تحولوا إلى نواة التمرد والحرب الأهلية في دارفور.
لقد كان من الممكن للحركة الإسلامية السودانية أن تسير في ختام مرحلة "التأمين" في أحد مسارات ثلاثة:
أولها أن تسود الرؤية التي تبناها الترابي وجناحه في الحركة، فيتخلى العسكريون عن السلطة، ويتم تطبيق الديمقراطية (ولو بشكل جزئي) واللامركزية التي دعا إليها الترابي، وسانده فيها أهل دارفور وأهل الجنوب. وتدل النظرة إلى الوراء اليوم على أن هذا الخيار كان هو الأحكم والأعدل.
ثانيها أن تجد الحركة الإسلامية مكانا لطرفيها المختلفين في بنية سياسية تعطي الترابي شيئا من القيادة الفكرية والتشريعية، وتمنح جناح البشير وعلي عثمان شيئا من السلطة التنفيذية، وهو ما سيديم وضع الازدواجية والصراع داخل الأجهزة الحكومية.
وثالثها إقصاء العسكريين وحلفائهم الذين يملكون السلطة التنفيذية لإخوانهم من خارجها. وهو ما تم بالفعل، حينما حل البشير البرلمان عام 1999 وأعلن حالة الطوارئ ووضع شيخه الترابي في السجن. وكان هذا الاتجاه هو الذي ولدت فيه محنة دارفور في شكلها الكارثي الحالي.

الحركة الإسلامية ومحنة دارفور
كان أهل دارفور من الإسلاميين المشاركين في الحركة الإسلامية يعلقون آمالا عريضة على ثورة الإنقاذ، أقلها أن ترفع الضيم عن إقليمهم، وتكفل لهم حضورا منصفا في جهاز الدولة ونصيبا منصفا من خدماتها، لكن سرعان ما خاب ظنهم.
"كان أهل دارفور من الإسلاميين المشاركين في الحركة الإسلامية يعلقون آمالا عريضة على ثورة الإنقاذ، أقلها أن ترفع الضيم عن إقليمهم وتكفل لهم حضورا منصفا في جهاز الدولة ونصيبا منصفا من خدماتها، لكن سرعان ما خاب ظنهم"ولم تكن خيبة الظن هذه جديدة مع الأسف، فقد بدأت بوادرها في الثمانينات، حينما استقال عدد من القادة الإسلاميين المنحدرين من دارفور من الجبهة الإسلامية القومية التي يقودها الترابي آنذاك احتجاجا على دعم الجبهة للقبائل العربية في دارفور ضد قبيلة الفور الأفريقية.
ثم تجلت خيبة الأمل أكثر عام 1990 بتمرد صغير قاده داود بولاد ضد حكومة الإنقاذ. والمثير للاهتمام حقا هو أن بولاد كان يعتبر يومها أحد القادة الإسلاميين من قبيلة الفور القاطنة في دارفور (ومنها أخذ الإقليم اسمه التاريخي) وقد ترقى بولاد في سلم الحركة الإسلامية حتى أصبح رئيسا لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم ممثلاً للحركة الإسلامية التي يقودها الترابي.
قضت حكومة الإنقاذ على التمرد بسهولة وأعدمت بولاد نفسه، مما ترك جرحا عميقا لدى أهل دارفور، خصوصا الإسلاميين منهم. وينظر أهل دارفور اليوم إلى بولاد على أنه شهيد قضيتهم، وأنه رجل سابق على عصره، كما تمدحه أدبياتهم بأنه كان حافظا للقرآن الكريم عميق التدين ومهندسا متميزا. بينما وصفته دعاية حكومة الإنقاذ حينها بأشنع الأوصاف والتهم، ومنها أنه ارتد عن الإسلام ومزق المصحف الشريف. وقد اعترف الترابي فيما بعد –حسبما أفضى به إليَّ أحد المقربين منه- بأن حكومة الإنقاذ لم تأخذ العبرة من تمرد بولاد، فكانت حرب دارفور الأخيرة عاقبة لذلك.
وعلى خطى بولاد سار د. إبراهيم خليل، الذي يقود اليوم "حركة العدل والمساواة" المتمردة في دارفور، والمقربة من الترابي وحزبه (المؤتمر الشعبي). وقد كان إبراهيم من القادة البارزين في الحركة الإسلامية السودانية، حتى إنه تقلد عدة مناصب وزارية بعد ثورة الإنقاذ.
وتدل حالة إبراهيم -ومن قبله حالة بولاد- على أن مشكلة دارفور لا يمكن فصلها عن مشكلة الحركة الإسلامية السودانية وعجزها الفاضح في بناء دولة العدل التي بشرت بها السودانيين خلال نصف قرن قبل انقلاب 1989، ثم الأنانية السياسية التي اتسم بها قادة الحركة في صراعهم الداخلي، ثم كيد بعضهم لبعض بطريقة انتهازية لم تحترم أسس التعامل الإنساني، فضلا عن الأخلاق الإسلامية.
وقد تجلت الانتهازية والأنانية السياسية في تمرد الضباط الإسلاميين المنحدرين من دارفور بتشجيع من الترابي بعدما فصلهم البشير من أعمالهم، ثم برهن البشير وعلي عثمان لشيخهما الترابي على أنهما أكثر انتهازية منه، فسلحا قبائل البدو وأطلقا يدها لإبادة أهل دارفور وتشريدهم.
ومن قبلُ رمى البشير وعلي عثمان شيخهم الترابي في غياهب السجن مرة لأنه اختلف معهما حول شكل الدولة وهيكلتها الإدارية ومن يحكمها من أبناء الحركة (وقد دلت الأيام على صدق رأي الترابي في ضرورة اللامركزية وحكم الأقاليم) ومرة لأنه التقى جون غرنغ، ثم هرول الرجلان بعدها مباشرة إلى أحضان غرنغ ليمنحوه ما لم يحلم به قط مع الترابي أو المهدي.
لقد حفر الإسلاميون السودانيون قبرا جماعيا في دارفور لأنفسهم، ولحركتهم وتجربتها الرائدة، وهم يتحملون نتائج ذلك بؤسا وشقاء لهم ولشعبهم، وصدا عن الإسلام، وتيئيسا للناس من تحقيق العدل في ظلاله.
"حفر الإسلاميون السودانيون قبرا جماعيا في دارفور لأنفسهم ولحركتهم وتجربتها الرائدة، وهم يتحملون نتائج ذلك بؤسا وشقاء لهم ولشعبهم، وصدا عن الإسلام وتيئيسا للناس من تحقيق العدل في ظلاله"وجدير بالشعوب العربية والإسلامية اليوم أن تدرك ذلك، بدلا من التعاطف الساذج مع من لا يقيم وزنا لدماء أبناء شعبه وكرامتهم. إن دماء الفقراء المشردين في دارفور وكرامتهم الإنسانية لا يقلان وزنا عند الله عن دم الرئيس البشير والدكتور الترابي وكرامتهما، والاستصراخ في وجه العدوان والتطفيف الغربي لا يصلح مبررا للوقوف إلى جنب الظلمة من المسلمين. فمتى تفهم الشعوب العربية والإسلامية ذلك؟
وربما يحسن بنا هنا أن نختم بدعوة المفكر الإسلامي السوداني الدكتور عبد الوهاب الأفندي للإسلاميين في السودان إلى "أن ينصروا إخوانهم بكف أيديهم عن الظلم اتباعا للنصيحة النبوية، وأن يسارعوا إلى نجدة المنكوبين والتضامن معهم، وأن يطالبوا من داخل الحكومة بمساءلة ومحاسبة ومعاقبة المسؤولين عن هذه الكوارث السياسية والعسكرية والانسانية التي لم تهدد النظام فقط، بل تهدد اليوم وجود السودان".
هذا إضافة إلى ما وجهته من ضربة للعلاقات العربية الأفريقية، ولمستقبل العمل الاسلامي في دارفور.
وكم هو حق ما كتبه الأفندي بعد هذا النداء مباشرة "نعم هناك بالقطع خطر يتهدد الإسلام في السودان اليوم، ولكنه خطر مصدره الخرطوم، لا نيويورك أو واشنطن".
إن سوء صنيعنا في علاقة بعضنا ببعض وتسويغنا ما لا يستساغ هي الثغرة التي يدخل منها الآخرون دائما. وقد وقفنا مع صدام حسين في إبادة شعبه وغزو جيرانه، فكانت النتيجة أن خسرنا العراق وشعبه.
وها نحن نقف اليوم مع البشير في إبادة شعبه وتشريده، وستكون النتيجة أن نخسر السودان وشعبه. فهل ننظر أخيرا في المرآة لنرى الخشب في أعيننا، بدل البحث عن القذى في أعين الغير؟




الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

حذاء الزيدي.. رسالة من الأرامل والأيتام


حذاء الزيدي.. رسالة من الأرامل والأيتام
محمد بن المختار الشنقيطي


شيء من فذلكات اللغة
-
شيء من دلالات الصورة-
هذه من الأرامل والأيتام

قبل البدء في عرض هذه الفذلكات اللغوية والمعاني الرمزية، أقترح على الصحفي العراقي منتظر الزيدي أن يغير اسمه فورا، ويسمي نفسه من اليوم منتظر الحذَّاء.

والحذَّاء في لغة العرب صانع الأحذية، مثل العطَّار صانع العطر والسيَّاف صانع السيوف. ولم يصنع منتظر حِذاء، إنما صنع بحذائه التاريخ حينما صفع به وجه الاستكبار في وضح النهار.

فإن رضي منتظر –عجل الله فرجه- بهذا الاسم الذي أقترحه عليه، فسأشتري كبشين أملحين بالسعر المتداول في بادية الروم (تكساس)، وأذبحهما عنه، ثم أوزع لحومهما على من استبقى بقية عزة من أعاريب الصحراء علّهم يتذكرون أطفال غزة.

شيء من فذلكات اللغة
"منتظَر الزيدي (الحذّاء) قطع يد جورج بوش الملطخة بدماء الأبرياء، وحرمه انتحال دور المنتصر المحرر، وألبسه لبوس الغازي المندحر الذي خلف وراءه مليون أرملة ويتيم، وملايين المشردين داخل وخارج وطنهم"
لكلمتي الحذاء والنعل في اللغة العربية معان وظلال عديدة، نتناول بعضها هنا مستعينين بما ورد في كتاب (القاموس المحيط).

فمن استعمالات لفظ "الحذاء" في العربية مما له ارتباط بسياق حادثة الحذاء البغدادي هذا الأسبوع أن العرب تقول: "حذا يده أي قطعها، وحذا فلانا بلسانه وقع فيه فهو محذاء يحذي الناس".

وليس من ريب أن الصحفي منتظَر الحذَّاء رجل محذاء، فقد قطع يد جورج بوش الملطخة بدماء الأبرياء، ووقع فيه شر وقيعة، حين حرمه انتحال دور المنتصر المحرر، وألبسه لبوس الغازي المندحر الذي خلف وراءه مليون أرملة ويتيم، وملايين المشردين داخل وخارج وطنهم.

فصاح في وجهه وهو يقذف بالحذاء الأول: "هذه قبلة الوداع من الشعب العراقي أيها الكلب" وصاح وهو يقذف بالثاني: "وهذه من الأرامل والأيتام".

ومن معاني النعل طبقا للقاموس أيضا: "الرجل الذليل يوطأ كما توطأ الأرض". وكم هو حلوٌ أن يذِل المستكبر في أوج سطوته، ويختم زيارته لأرض الرافدين بفردتيْ حذاء مصوبتين إلى وجهه، وهو يحاول ختم عهده البائس باتفاقية تشرع تدمير العراق في الماضي وتقنن ارتهانه في المستقبل.

ومما له ارتباط بالحذاء في لغة العرب الإزميل. قال صاحب القاموس: الإزميل "شفرة الحذَّاء، وحديدة في طرف رمح لصيد البقر". فإذا جاء راعي البقر ليجعل من أرض السواد مزرعة أبقار وأهل السواد جياع، فإن الإزميل الذي يصطاد البقر سلاح فتاك.

أما لفظ "النعل" في اللغة العربية فمن معانيه طبقا للقاموس المحيط: "الحديدة في أسفل غمد السيف". وقد شل العرب ذراعهم وفلوا سيفهم خوفا من راعي البقر أو طمعا فيه.

لكن صاحبنا الحذَّاء وجد في "الحديدة في أسفل غمد السيف" كفاية، فاتخذها سلاحه ليسخر بها من صولة الباغي. وهي –لعمري- سخرية أمضى من حد السيف ذاته.

شيء من دلالات الصورة
كان العلم الأميركي يرفرف وراء جورج بوش، وهو يتكلف التلفظ بكلمتي "شكرا جزيلا" باللغة العربية، وقد ذكرني ذلك بقول بول وولفويتز لبعض القنوات العربية في واشنطن: "السلام عليكم" باللفظ العربي قبل بضعة أيام من انطلاق حملة تدمير العراق التي كان وولفويتز أكبر منظريها.

وكأنما كُتب على بغداد أن تكون مُذلة لمن يغزوها، ساخرة ممن يتودد إليها بنفاق. فقد كاد وولفويتز يموت وهو في زيارة لبغداد من صاروخ أطلق من فوق عربة حمار، وكاد بوش يتلقى صفعة مباشرة على الوجه من حذاء صاحبنا الحذَّاء.

"جاء جورج بوش إلى العراق في آخر زيارة له بحثا عن ماء وجهه الذي أريق في بغداد على يد المقاوم العراقي، لكن الحذاء كان بالمرصاد فأسقط الهيبة الزائفة، وبدد الابتسامة المتكلفة"
بل الحق أنه تلقى من المهانة ما هو أدهى من الصفعة. ولعل صحيفة "تشرين" السورية على حق حينما علقت بأن بوش "تجنب الحذاء لكنه لم يستطع أن يتجنب الإهانة".

كان منتظر الحذّاء ينتظر وقت الختام في رحلة بوش البغدادية، وما أنسبها من لحظة، لحظة ارتداء الغازي القادم من وراء البحار لبوس المتزلف المتماهي مع ضحاياه.
وطار الحذاء البغدادي فأخطأ وجه بوش، لكنه أصاب العلم الأميركي المرفرف وراءه.

ولصاحب القاموس المحيط ما يتحفنا به أيضا في العلاقة بين العلَم المرفرف والحذاء المصفق. قال صاحب القاموس: "الخفق صوت النعل، وخفقت الراية اضطربت وتحركت".

لقد جاء جورج بوش إلى العراق في آخر زيارة له بحثا عن ماء وجهه الذي أريق في بغداد على يد المقاوم العراقي، ثم أريق في واشنطن على يد الناخب الأميركي، وظن الأبله أنه سيختم ولايته الرئاسية البائسة بابتسامات عريضة في بغداد يعلن فيها وضع العراق إلى الأبد ضمن المحميات والمحظيات الأميركية، فيكتب اسمه في التاريخ ضمن الرؤساء الذين وسعوا نفوذ الولايات المتحدة وهيمنتها.

لكن الحذاء كان بالمرصاد فأسقط الهيبة الزائفة، وبدد الابتسامة المتكلفة. وفي ذراع المالكي الممتدة لحماية وجه بوش من الحذاء مدلول مهم، وهو أن الحامي أصبح يلوذ بمحميِّه بعدما انكشف انكشافا.

وقد ذكرني الحذاء البغدادي بنعل كليب الذي أشعل حرب البسوس بين قبيلتي بكر وتغلب قبل الإسلام، فدامت المعارك بينهما أربعين عاما. فكأن منتظَر الحذَّاء يقول للقادم من بادية الروم: "بُـؤْ بشِسْع نعل كليب"، كما قالها أخو كليب لقتلته، بل كأنه يقول له: أما وقد اخترتم طريق البغي والعدوان فلتكن الحرب بيننا وبينكم جذعة أربعين عاما، فلسنا ممن ينام على الضيم أو يقيم على الهوان.

هذه من الأرامل والأيتام
صرحت الناطقة باسم البيت الأبيض دانا بيرينو أن الرئيس بوش "يعتقد أنه مجرد حذاء والناس يعبرون عن أنفسهم بوسائل مختلفة." لكن من الواضح أن حذاء منتظر الزيدي ليس مجرد حذاء، وأن محاولة اختزاله في ذلك جهد باهت للتقليل من مدلول الرسالة العظيمة التي يحملها: رسالة استهجان الظلم والبغي، واحتقار الغازي المتكبر، وإعلان رفض الوصاية، والتشبث بالحرية والعدل.
أما قول المتحدثة باسم البيت الأبيض إن بوش "لا يضمر أي مشاعر سلبية تجاه الحادث" فيكذِّبه الجبين المقطَّب والوجه الشاحب الذي ظهر به الرئيس الأميركي في أفغانستان بعد رحيله من بغداد مخذولا.
"حادثة الحذاء البغدادي تذكِّر بالسؤال الذي طرحه جورج بوش ببلاهة بعد قارعة 11 سبتمبر/أيلول: "لماذا يكرهوننا؟" ولعل فيما حدث جوابا شافيا, فقد قال صاحبنا الحذَّاء وهو يرمي الحذاء: "هذه من الأرامل والأيتام" فهل يسأل سائل جاهل بعدها: "لماذا يكرهوننا؟""
لن تتوقف محاولات التقزيم لحادثة الحذاء التاريخية في الأسابيع القادمة، وسيفعل الأميركيون ووكلاؤهم في العراق ما يستطيعون للبرهنة على أن منتظر الحذَّاء مختل عقليا، أو مدمن مخدرات، أو صاحب سوابق جنائية، أو صاحب ارتباطات إيرانية-سورية... وسيبذلون الغاية في دفعه إلى الاعتذار العلني، تحت وطأة التعذيب أو بإغراء المال وتخفيف الأحكام.

لكن هيهات أن يحجبوا الرسالة التي أوصلها منتظر ببلاغة إلى العالم أجمع، وهي رسالة ناطقة برفض الاستعمار والإذلال، متمسكة بحق الشعوب في بغض من يسفك دمها، ويغتصب أرضها، ويمتهن كرامتها، بل حقها في قذف الجزمة بوجهه الدميم.

ولا يقل أهمية عن ذلك أن منتظر الحذَّاء ساهم في التئام الجرح الطائفي النازف في العراق، فقد أجمعت على تأييد فعله القوى السنية والشيعية، الإسلامية والعلمانية. فلعل الحذاء المبارك يلملم جراحا فتحها المستعمر، وغذاها جهل الفقهاء، وغوغائية الدهماء، وأنانية السياسيين، وتعصب الخارجيين.

وأخيرا فإن حادثة الحذاء البغدادي تذكِّر بالسؤال الذي طرحه جورج بوش ببلاهة بعد قارعة 11 سبتمبر/أيلول: "لماذا يكرهوننا؟" ولعل فيما حدث جوابا شافيا. فقد قال صاحبنا الحذَّاء وهو يرمي الحذاء: "هذه من الأرامل والأيتام". فهل يسأل سائل جاهل بعدها: "لماذا يكرهوننا؟".

المصدر: الجزيرة نت
الرابط الأصلي:

الاثنين، 26 أكتوبر 2009

معايير النجاح التنظيمي وثنائياته الكبرى





محمد بن المختار الشنقيطي






معايير النجاح التنظيمي

وثنائياته الكبرى









رسائل الفقه السياسي (2)






لم يعد التنظيم موهبة فردية تتوقف على عبقرية القائد الفرد، بل أصبح علما راسخا له أصول وقواعد يحتاج العاملون للإسلام إلى استيعابها، فخدمة الدين بوسائل متخلفة عن عصرها تفريط لن يقود إلى التمكين، بل الأسوأ من ذلك أنه يؤثر سلبا على رؤية الناس للدين ذاته، ويقنطهم من تحقيق العدل في ظلاله.
وفيما يلي ستة معايير للنجاح التنظيمي، يمكن اعتبارها صالحة للحكم على التنظيمات السياسية والاجتماعية عموما، بغض النظر عن التفاصيل والخصوصيات، يتلوه عرض للثنائيات الكبرى في الفكر التنظيمي. وقد حصرنا هذه الثنائيات بناء على اسقرائنا لتجارب الحركات الإسلامية في ثمان، وهي الشكل والمقصد، الإسرار والإعلان، العمق والامتداد، العموم والخصوص، التميز والانعزالية، الالتزام والمبادرة، الوحدة والتباين، الفصل والوصل.
فلنبدأ بمعايير النجاح التنظيمي.
أولا: معيار المرونة
فكلما كان مستوى المرونة عاليا، كان ذلك أدعى لنجاح التنظيم. والمرونة أنواع ثلاثة:
* مرونة وظيفية تتعلق بأهداف التنظيم ووظائفه، بأن يكون التنظيم قادرا على تغيير بعض أهدافه المرحلية ووظائفه العملية التي تم إنجازها أو تعذر إنجازها، واستبدالها بأهداف ووظائف أهم في الظروف الجديدة أو أيسر من حيث الإنجاز. وكل تنظيم لا يستطيع التحرر من بعض وظائفه وأهدافه المرحلية، وتبنِّي وظائف وأهداف أكثر انسجاما مع إمكاناته في الظروف المتغيرة، فهو محكوم عليه بالجمود والموت البطيء. على أن التحرر من الأهداف المرحلية أو بعض الوظائف العملية، لا يعني تحررا من المبادئ والغايات العليا التي هي مبرر وجود التنظيم.
* مرونة إجرائية تتعلق ببنية التنظيم وإجراءاته الداخلية ذات الصلة بتغيير قادته واتخاذ قراراته. بأن يكون التنظيم قادرا على تغيير قيادته بيسر، وبأسلوب مرن يفتح باب الصعود إلى القيادة والنزول منها، بناء على معايير موضوعية لا شخصية، ودون انقطاع في المسيرة أو تمزق في الصف، وقادرا على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب دون تلكؤ أو عرقلة.
* مرونة عملية تتمثل في تعاطي التنظيم مع التحديات المتغيرة بأسلوب متغير، دون جمود على الأساليب السابقة، حتى ولو أثبتت جدواها في الماضي. بل إن نجاحها في الماضي قد يكون أحيانا مغريا بالتشبث بها في واقع مغاير، فيدخل الخلل من هذا الباب، ويسقط التنظيم ضحية لنجاحاته وأمجاده السالفة.
ثانيا: معيار التماسك
فكلما كان تماسك التنظيم أقوى، كان ذلك قرينة على نجاحه وإمكانية صموده أمام التحديات. ويتطلب التماسك الفعال قدرا كبيرا من الإجماع الداخلي حول أمور جوهرية ثلاثة:
* طبيعة التنظيم ورسالته، لا على مستوى الهدف الأسمى ومبرر وجود التنظيم فحسب - فذلك أمر سهل لأنه أمر نظري– بل على مستوى الأهداف المرحلية الأساسية، والوسائل الفعالة التي ينبغي تبنيها لتحقيق تلك الأهداف.
* قيادة التنظيم: هيكلا وصلاحيات وأشخاصا. وتلك هي الشرعية الداخلية التي تعتبر أكبر ضامن للتماسك وأعظم حام للوحدة.
* وسائل حل الخلافات الداخلية طبقا لترتيبات متفق عليها، بحيث يمكن احتواء تلك الخلافات – سواء تعلقت بالتوجه أو بالمسيرة أو بالقيادة– بأسلوب سلمي مرن، لا يؤثر انشقاقا في هيكل التنظيم، أو تعثرا في مسيرته، أو انحرافا في وجهته.
ثالثا: معيار الاستقلالية
والمراد به أن يكون للتنظيم كيان معنوي وشخصية اعتبارية متميزة عن الأفراد والقوى الاجتماعية المكونة له، بحيث لا يتوقف في وجوده ولا في فاعليته على غيره من القوى، ولا يكون أداة لخدمة أي منها. بل يكون مُكرَّسا لخدمة الأهداف التي من أجلها أُنشئ. إن تنظيما استطاعت قيادته أو استطاعت فئة اجتماعية –أسرة أو قبيلة أو جهة أو طبقة- تسخيره لمصالحها الخاصة على حساب رسالته العامة التي من أجلها أنشئ.. لا يمكن وصفه بالاستقلالية.
فالتنظيم المستقل ينضوي تحته الأفراد والقوى الاجتماعية لخدمته وتبني أهدافه. وقد يحصل أولئك الأفراد أو تلك القوى على ثمرات من وراء الانضواء تحت رايته، لكن ذلك يكون تبعا لأهداف التنظيم ونتيجة عرضية لتقدمه في تحقيق رسالته. فإذا أصبحت أهداف الأفراد أو القوى الاجتماعية المكوِّنة للتنظيم في درجة فوق أهداف التنظيم أو منافسة لها، فقدْ فقدَ التنظيم معيار الاستقلالية.
رابعا: معيار التركيب
والمراد به مضاعفة الهياكل وتنوعها وتشعبها. ويشمل التركيب التمايز بين البُنى والوحدات التنظيمية، والفصل بينها هرميا ووظيفيا وجغرافيا، مع التكامل والتوازن فيما بينها، باستناد بعضها إلى بعض، وتحكم بعضها في بعض. فالتركيب يساعد التنظيم على بناء هويته الذاتية المستقلة عن الأشخاص، وتوطيد استقراره واستمراره، وتأكيد شخصيته الاعتبارية التي لا تتوقف في وجودها ولا في مسيرتها على وجود زعيم مؤسس، أو جيل رائد. وقد لا يروق التركيب التنظيمي للقادة الذين يميلون إلى الاستبداد والهيمنة، فيُبقون تنظيماتهم في حال من السذاجة والبساطة يمكِّنهم من التحكم فيها. لكن هؤلاء بقدر ما يخدمون سلطتهم الشخصية على المدى القريب، فإنهم يضعفون التنظيم كمؤسسة على المدى البعيد.
خامسا: معيار الاستيعاب
فالغاية من بناء أي تنظيم هي الإحساس بالحاجة إلى تنسيق جهود جماعية، وترشيدها وتسديدها، وتصويبها نحو هدف مشترك، وتجنب تبديد الجهود أو تضاربها أو تناسخها، بسبب التوارد على نفس المكان دون تنسيق أو تناغم. فإذا استطاع التنظيم أن يستوعب أعضاءه، وينسق بين جهودهم، بحيث يجد كل منهم مكانه المناسب دون إحساس بالغبن أو التهميش أو استئثار رفقاء الدرب بأمور التنظيم من دونه، ودون تضارب الجهود أو تناسخها، دل ذلك على أن التنظيم يسير في الاتجاه الصحيح. أما إذا حدث العكس، وفقد بعض الأعضاء ثقتهم في التنظيم لضعف في الإيمان بالأهداف، أو لنقص في الثقة بالقيادة، أو لمجرد الإحساس بالغبن، أو سوء توجيه الجهد.. وإذا فقدت قيادة التنظيم القدرة على توجيه الجهد الجماعي في تناسق وانسجام، وساد التضارب والتناسخ والتوارد على نفس المورد.. فإن ذلك مؤشر سلبي يدل على أن التنظيم بدأ يرتبك ويفقد رسالته، ويتحول إلى قيد على الطاقات الفردية التي كان أداة ترشيدها وتسديدها.
سادسا: معيار الإيجابية
والمراد به أن يحافظ التنظيم على زمام المبادرة في شؤونه، ويتفاعل بإيجابية مع تطورات مجتمعه. فذلك هو المدخل الوحيد إلى نمو التنظيم نموا طبيعيا دون طفرات مباغتة غير محسوبة، ودون تخلف وجمود وبقاء على هامش المجتمع. وتستلزم الإيجابية قدرا من الواقعية تشجع الخير مهما لابسه من غبش، وتتعايش مع الشر من أجل تغييره، دون يأس من الناس، أو تسرُّع غير منضبط، أو خروج على المجتمع. ولا تترك فراغا يعين عوامل الشر والسلبية على التمكن والرسوخ. تؤمن بالجهد الدؤوب مهما كان متواضعا، وبالعمل الصامت المؤثر، وبالسير المتدرج في تحقيق الغايات المبتغاة.
ولا يتم هذا إلا باستيعاب عوامل القوة والضعف في المجتمع، وجوانب التقدم والقصور في المسيرة، ووسائل الاكتساب والتأثير، وعوامل التسريع بالتغيير، مع انتباه لأي ثغرة تُفتح، واستغلال لكل فرصة تَسنح.
بعد هذه الإطلالة على بعض معايير النجاح التنظيمي، نعرض الآن باقتضاب لثمان من الثنائيات التنظيمية التي تمثل معضلات فكرية وعملية للحركات الإسلامية، ويتوقف على حسن التعامل معها مسار كل حركة ومآلها.
الشكل والمقصد
إن أولى إشكالات الفكر التنظيمي التي تواجهها الحركات الإسلامية هي ثنائية الشكل والمقصد، وما ينبني عليها من آثار عملية. فالأصل في التنظيم في الحركات الإسلامية أنه وسيلة لخدمة الدين، وتوحيد الجهد. لكن الأشكال أحيانا تتحول في أذهان الناس إلى غايات ومقاصد، خصوصا إذا أثبت الشكل نجاحا في خدمة المبدإ لفترة زمنية معتبرة. وقد أصيبت العديد من الحركات الإسلامية بهذا الداء: داء التشبث بالأشكال على حساب المضامين، والحرص على المظاهر أكثر من الجواهر.
إن الحياة المتغيرة تستلزم استجابات متغيرة. والتشبث بالأشكال التنظيمية بعد تخلفها عن حاجة المبدإ وظروف العمل تخلف وجمود، يقضي على نمو الحركة وتطورها. وقد أحسن الشاعر الفيلسوف محمد إقبال حينما نصح المسلم بالتحرر من زخرفة الغمد، والتشبث بمضرِب السيف، فقال:
عصاك تُصدِّع صُمَّ الجــبالْ وتعرف سيناء صدق الكـلامْ
فدعْ ترَفَ الغمد، ما للهـلالْ على فخره غيرُ شكل الحسـامْ
[1]
وليست جدلية الشكل والمقصد إشكالا عمليا فحسب، بل هي إشكال فكري جوهري يمس العلاقة بين المبدإ والمنهج، وبين الغايات والوسائل، في العمل الإسلامي. وكل خلط في هذا السبيل يترتب عليه انحراف فكري، له نتائجه العملية السيئة. إنه داء "التجسيد" الذي حذر منه مالك بن نبي: تجسيد المبادئ الخالدة في أشخاص غير مخلدين، أو في أشكال محدودة الفائدة بحدود زمانها ومكانها. لكن هذا الداء طاغ -بكل أسف- على فكر بعض الجماعات السلفية المعاصرة في رؤيتها لتاريخ السلف، وهو حاضر في تاريخ وواقع بعض الحركات الإسلامية في رؤيتها لأشكالها ورجالها. وقد لاحظه النفيسي، فقال: »ينبغي التفريق بين الدين كمعتقد وغاية، والتنظيم كحشد ووسيلة... الدين لا يمكن القبول بنقده، لكن لأن الخلط حاصل بين الدين والتنظيم، صار أيضا ليس مقبولا نقد التنظيم!!… لذا ينبغي تشجيع النقد الذاتي للتنظيم، وفتح المجال أمام الجميع في ممارسة هذا الحق الطبيعي، الذي باتت تعترف به كل النظم والجماعات والأحزاب في هذا العصر«[2].
الإسرار والإعلان
من الإشكالات الرئيسية التي تشكل تحديا للحركات الإسلامية قضية الإسرار والإعلان في العمل، وحدود كل منهما. والقاعدة الشائعة في هذا الشأن هي تلك دعاها الإمام الشهيد حسن البنا "علنية الدعوة وسرية الحركة". فالدعوة –من هذا المنظور– لا بد أن تكون علنية: بلاغا مبينا يحرك كوامن الفطرة الإسلامية في قلوب الأمة، ويبين للناس الطريق إلى الله بالحسنى، ويقيم الحجة على العدو المناوئ. والحركة لا بد أن تكون سرية: تأمينا لمستقبل الدعوة، وتركيزا لجهد العاملين، وتفاديا لكيد الظالمين.
وليس من السهل أبدا النجاح في هذه المعادلة: إذ يميل بعض العاملين إلى التخفي المفرط حرصا على النوعية، وتأمينا لرأس المال المتحصل؛ ويميل آخرون إلى العلنية بغير حساب، أملا في التوسع والاكتساب. وكثيرا ما ينتهي المنحى الأول بالجمود، والثاني بالتسيب.
والأصل أن العمل الإسلامي لا يحتاج إلى إسرار في الظروف الطبيعية، لأنه رسالة خير مشاعة للجميع، من حق الجميع الاطلاع عليها وجني ثمراتها، كما أن العمل السري يحول الدعوة إلى شبه "جريمة"، ويعمق الهواجس والمخاوف من حمَلتها. لكن ظروف القهر والاستبداد السائدة في ديار المسلمين اليوم، وأهواء الحاكم الذي تحكم هذه الديار دون رادع من قانون أو خلق.. تفرض التعاطي الاستثنائي مع ظروف استثنائية، وتحتم شيئا من التحوط دون إفراط أو تفريط.
والرأي السديد –والله أعلم- هو الفصل بين مجالات السر والعلن بشكل حدي صارم، يحصر الإسرار في نواة قيادية صلبة، وفي أجهزة محدودة مكلفة بمهام مخصوصة، ثم يَترُك الهيكل الحركي العام واسعا فضفاضا، قادرا على استيعاب أكبر عدد من الناس، بمن فيهم الذين يوالون ولاء ناقصا، أو تجمعهم مع الحركة الإسلامية أهداف ظرفية جزئية.
فهذا النهج يفيد الحركات الإسلامية إفادات عظمى، هي في مسيس الحاجة إليها اليوم، ومنها:
* تسهيل مهمة الاكتساب من خلال انفتاح الحركة على المجتمع، وإدراك المجتمع لمضمون رسالتها وأهدافها، وهو ما لن تتمكن منه أي حركة تحبس نفسها في أجواء التوجس والانغلاق.
* كسر حاجز العداء بين الحركة والآخرين. وقد أشار الدكتور عبد الوهاب الأفندي في دراسته للحركة الإسلامية السودانية إلى أن »سبب عداء أعدائها ناتج عن ضئالة ما يعرفونه عنها، لا ضخامته«
[3] وهي حقيقة تصدق على جميع الحركات الإسلامية، ولم ينبته لها كثيرون.
* تمكين الحركة من الإسهام الجدي في المعركة السياسية، وهو ما لا يمكن بدون كم بشري كبير، ولا كمَّ بغير انفتاح وتفاعل مع المجتمع، والرضا من كلٍّ بما يجود به.
* تأمين أسرار الحركة من خلال المظاهر المعلنة الطاغية، التي تستنزف طاقة الحكام المستبدين المتربصين بالحركة، وتلفت أنظارهم عن الأسرار الحقيقية .
فالقاعدة التقليدية المتداولة بين الإسلاميين حول "علنية الدعوة وسرية الحركة" ليست على إطلاقها:
* فعلنية الدعوة غير ممكنة بشكل كلي، إذ الحركة تحتاج أحيانا إلى اتصالات خاصة ببعض المستهدفين بخطابها، ممن لا تسمح مواقعهم بمخاطبتهم علنا، كما أن برامجها التكوينية لا بد أن تتضمن ما لا يحسُن تقديمه على المكشوف، مما يتعلق ببناء القوى النوعية القادرة على درء القمع ومغالبة الاستبداد.
* وسرية الحركة غير متاحة يإطلاق، فهي تحتاج إلى إبراز قادة يكونون رموزها ووجوهها لدى المجتمع، ودعاة يكونون لسانها وخطابها، ومناضلين يعبرون عن رؤيتها للحرية والعدل الاجتماعي. ومن العسير التستر على الروابط التنظيمية التي تربط هؤلاء، نظرا لما يستلزمه عملهم من الاشتهار والتعرض، ودوام التنسيق والالتقاء. والأعسر من ذلك التستر على أشخاصهم.
ولو فُصِلت أسرار الحركة عن هؤلاء لأمكنهم الحديث بلسان طليق، والصدع بما يحملونه من مبادئ وأفكار، والتحرك بخططهم السياسية والاجتماعية دون أي خطر على الأسرار الحيوية للحركة جراء ذلك.
وهكذا يتضح أن الحركات الإسلامية ليست سرية بمعنى الكلمة، وليس من الضرورة ولا من المصلحة أن تكون كذلك. كل ما في الأمر أن لديها أسرارا يجب عليها تأمينها. وقد تكون تلك الأسرار في شكل أشخاص أو برامج أو خطط أو هيئات مخصوصة. إن المطلوب من الحركة هو أن تؤمِّن أسرارا محدودة، وأن تكتسب المجتمع كله أو جله. فكلما تم حصر تلك الأسرار وفصلها عن مجالات العمل العلنية، كان ذلك أشد تأمينا لها. وكلما انفتحت الحركة على المجتمع وتضاعف كمها، كلما أمكن التستر على تلك الأسرار، كالدرة الثمينة في بحر محيط.
على أن فصل أسرار الحركة عن عملها العلني لا يعني ازدواجية في القيادة، تطلق العنان للأجهزة الخاصة، لتسرح وتمرح، وتناور وتغامر، بعيدا عن ضوابط الاستراتيجية العامة للعمل، ورقابة القيادة التنفيذية والشورية، فتجر عموم الحركة إلى كوارث. ولا يزال الجدل دائرا حول دور المرحوم عبد الرحمن السندي والشهيد مروان حديد في جر الحركتين الإسلاميتين المصرية والسورية إلى بعض المزالق والمواجهات الخطيرة، حينما استقل كلاهما بقراره عن القيادة الشرعية، واندفع اندفاعا غير منضبط
[4].
إن المطلوب من الحركات الإسلامية هو تقدير منضبط لمجالات السر والعلن وفصلهما وظيفيا وبشريا، مع إبقاء قنوات الاتصال الخاصة مفتوحة بين المجالين، بما يضمن تناسقا وانسجاما في التوجه، وتأمينا واحتياطا في العمل، ووحدة في القيادة والقرار. وهذا التقدير المنضبط لحدود السر والعلن هو الذي يمكن الحركة من رفع الحجب، وكسر حاجز الريبة والخوف بينها وبين مجتمعها، فأمن الحركة الاستراتيجي هو تمكنها في مجتمعها الواسع، حتى يصبح استئصالها أو محاصرتها أمرا مستحيلا، أما ما تتخذه من تدابير أمنية فنية –على أهميته- فهو مجرد تأمين تكتيكي.
لكن مجالات السر والعلن اختلطت في حركات إسلامية كثيرة – مع الأسف- فلم يبق السر سرا، ولا العلن علنا: كان الإمام الشهيد حسن البنا يكتب في الصحف يشيد ببعض العسكريين من قادة "النظام الخاص" -مثل الأستاذ صلاح شادي– وكان بعض أولئك القادة (مثل الأستاذ شادي نفسه) يقوم بوظيفة الحسْبة، بشكل مكشوف
[5] وكأنه يعيش في دولة الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب، لا دولة الملك فاروق. وقد حدث ذلك في الوقت الذي كان فيه الإخوان يدرسون فقه الدعوة وعلوم الشرع في الخلايا السرية!! فهل نراجع تلك التجارب بتمحيص وبصيرة، أم نظل أسرى لرؤية الماضي ومقولاته؟؟
العمق والامتداد
تواجه حركات التغيير الاجتماعي عادة إشكالا عمليا، يتعلق بالاختيار بين منهج الانتقاء الكيفي الذي يضمن صلابة النواة ونوعية العمل، ومنهج الحشد الكمي الذي يمكِّن من جمع قوة بشرية قادرة على المغالبة. وتغالي بعض الحركات الإسلامية في الحرص على النوعية، حتى تفقد حس الواقعية، وتتحول إلى صفوة معزولة منبتة عن جماهير الأمة.
ويدل الاستقراء لتجارب الحركات الإسلامية نجاحا وإخفاقا على جملة دروس مفيدة في مجال التوازن بين العمق والامتداد، نجملها في الآتي:
* الأصل أن يكون المنهج الانتقائي النوعي هو المتبع في فترة التأسيس. ومن فوائد ذلك: رسوخ النموذج، وانتصاب القدوة، وإمساك الثقات الأثبات بمقاليد الأمور. وبذلك تكون قاعدة البناء صلبة من البدء. فتصحيح البدايات هو الشرط في نجاح النهايات.
* بعد تجاوز طور التأسيس ودخول الحركة مرحلة المغالبة السياسية، لا بد من الانفتاح الكمي الذي يقتضي تساهلا نسبيا في شروط العضوية، وفتحا لقنوات التربية، وتعبئة عامة للناس. كما بدأ الناس في الالتحاق بدعوة الإسلام الأولى أفذاذا، ثم انتهى الأمر بدخولهم في دين الله أفواجا.
* إن التمييز بين منهج العمق ومنهج الامتداد ليس مجرد تمييز زمني: هذا في طور التأسيس وذاك في طور المغالبة السياسية، وإنما هو تمييز وظيفي كذلك. فلكل من العمق والامتداد مجاله ومساحته: فبعض الأجهزة الحركية الخاصة تستلزم دائما تشددا في القبول، وحرصا على النوع، وبعضها بطبيعته لا يحتاج ذلك، بل يتضرر ويختنق إذا لم يظل مفتوحا على المجتمع متفاعلا معه.
* مهما تكن دواعي الانفتاح مغرية، فلا ينبغي التخلي عن الهيكل الحركي بشكل كامل، وخصوصا بعض الأجهزة النوعية التي يرتبط مستقبل العمل وتوجه الحركة الاستراتيجي بها. أما أجهزة العمل العام فلا بد من توسيعها وفتحها لكل راغب، حتى ينساب خطاب الحركة إلى كل قطاعات المجتمع انسيابا. ويبقى توجيه هذه الأجهزة من مهمة الأفراد الحركيين المنبثين فيها. على أن يكون هؤلاء بخبرتهم النوعية وحسن تنسيقهم مع الأجهزة الأخرى قادرين على قيادة وتوجيه الكم المحيط بهم. ويستدعي الاحتفاظ بالهيكل الحركي السري في وقت الانفتاح العلني تطبيق فكرة "التنظيم الموازي" بكل ما تتطلبه من حصافة أمنية ومهارة سياسية وتنسيق إداري.
* يتعين على الحركة إذا قررت الانفتاح في أي طور من أطوارها، أن يكون ذلك بناء على خطة موجِّهة، حتى لا يتحول إلى تسيب سلبي. وانسجاما مع استراتيجيتها العامة، تحتاج إلى توجيهه إلى قطاعات معينة، وتركيزه على قوة اجتماعية خاصة –مثلا- لا تزال الحركة تعاني من انحسار في صفوفها، أو تحتاج الحركة إلى مضاعفة الاكتساب فيها لأهميتها النوعية.
* ترتبط الموازنة بين العمق والامتداد بالظروف السياسية والأمنية. فإذا أتيحت الحرية السياسية، وانحسر خطر القمع الأمني تعينت المسارعة إلى الامتداد ببسط الأجنحة ومضاعفة الاكتساب. وإذا ساد التضييق السياسي والقمع الأمني فإن التوجه إلى العمق هو اللازم: مراجعةً للذات، وتعميقا للتكوين، وتمتينا للصف. وهكذا تبقى أبواب الخير مفتوحة أمام الحركة أبدا: ففي ظروف الحرية تنحو منحى التوسع والامتداد، وفي ظروف القهر تنحو منحى العمق والتركيز.
العموم والخصوص
تتحد الحركات الإسلامية في المنطلق والمبدإ، لكنها تختلف في العمر والتجربة والحجم والتكوين، فضلا عن اختلاف المجتمع الذي تتحرك في نطاقه كل حركة عن المجتمعات الأخرى في خلفيته التاريخية، وتطوره الثقافي، ونظامه السياسي، ونموه الاقتصادي، وتركيبته الاجتماعية. فكان لابد أن يكون بين هذه الحركات تشابه واختلاف، ووحدة وتنوع، وعموم وخصوص. فكيف يمكن التوفيق بين المقتضيات العملية المترتبة على هذه الازدواجية ؟
ليس من ريب أن المطلوب هو التوازن بين الخصوصية والعالمية، بين الواجب المتعين محليا، وواجب الأخوة والمناصرة عالميا. لكنه توازن من العسير تحقيقه، فما العمل إذا تعارضت المصالح وتزاحمت الأولويات؟ هنا يظهر لنا أن على كل حركة أو جماعة إسلامية أن ترجح الخاص على العام، تغليبا لمنطق الفاعلية الخاصة، على منطق الشعارات العامة. وهو أمر يجد تأصيله الشرعي في أمر القرآن الكريم للنبي صلى الله عليه وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين ابتداء، وأمره لحملة العلم بإنذار قومهم. كما تزكيه المصلحة العملية، إذ تشير كل الدلائل إلى أن مشكلة الحركات الإسلامية ليست مشكلة كم وحشد على المستوى الدولي، بل هي مشكلة كيف وفاعلية في الواقع المحلي. والتركيز على الهم المحلي هو الذي يكسب الحركة فاعليتها وحيويتها، وكل تبعية لقيادة دولية أو إقليمية ستكون على حساب الهم المحلي.
إن بعض الحركات الإسلامية فقدت الإحساس بالمكان في العلاقات بينها، وقد أدى ذلك إلى خلل كبير في سلم الأولويات ، وأورث العديد من هذه الحركات ضعفا سياسيا وتنظيميا مزمنا. ومن أعراض هذا الداء حرص بعض الحركات الإسلامية على التقيد الحرفي بالأنماط والأشكال الحركية، الموروثة عن حركات سابقة في التجربة، وعدم الجرأة على مخالفتها حتى في بعض الجزئيات، والاستقلال عنها في ما يفرض الواقع المتعين الاستقلال فيه. وقد أورد الدكتور حسن مكي مثالا ذا دلالة: فقد حاول بعض من رواد حركة الإخوان في السودان نهاية أربعينات القرن العشرين أن يحصلوا من السلطة الاستعمارية الانكليزية على ترخيص قانوني لجمعيتهم، والسماح لها بإنشاء مقر لها، لكن »السكرتير الإداري [الإنكليزي] لم يسمح للحركة بإنشاء دار لها، إذا لم تعلن استقلالها عن الحركة الإسلامية بمصر، التي كانت تمر بمحنة 1948م، حيث فقدت الشرعية [حلتها السلطة الملكية الغاشمة]. وهنا لم يجرؤ تنظيم السودان على إعلان استقلاله من ناحية تكتيكية على الأقل، كي يتيح لنفسه قدرا من حرية الحركة«
[6]. وقد علل الأستاذ مكي ذلك الأمر بأن » الوعي الإسلامي كان منفعلا بما يجري في الخارج، أكثر من انشغاله باحتياجات الداخل«[7]. وهي ظاهرة لا تزال تعاني منها جل الحركات الإسلامية حتى اليوم مع الأسف.
إن اختلاف المجتمعات الإسلامية يحدد نوع الاستجابة المناسبة لتحديات الواقع، ويفرض على كل حركة إسلامية تعاملا مخصوصا مع خصوصيات مجتمعها، وابتكار الوسائل الملائمة لذلك، دون تقليد لتعاملات أخرى في واقع مغاير، أو نقل لوسيلة غير مناسبة دون تكييف أو تحوير، أو انشغال بشأن المسلمين العام عن واجباتها المتعينة.
لكن المؤسف أن بعض الحركات الإسلامية غفلت عن هذه الفروق المهمة على الصعيد العملي، فهي – كما لاحظ الدكتور محمد عمارة - »تنحو نحو "تجريد نظري"، يتصور – تبعا لوحدة دين الإسلام– عالَمَ الإسلام وواقعَ دياره نسقا واحدا منسقا، لا يعرف الفوارق في مستويات التطور، ولا الاختلاف في الأعراف والعادات والمذاهب والتصورات«
[8]. فلا عجب مع هذه الغفلة أن سقطت تلك الحركات في وهم المماثلة، والبعد عن الواقع، والقياس مع الفارق، فلم تستوعب تماما مراتب العموم والخصوص فيما بينها، وأورثها ذلك اختلالا كبيرا في سلم الأولويات العملية، جره عليها داء التقليد:
* فلا يعدم الملاحظ حركة إسلامية عاكفة على الوعظ والتربية الخلقية والتزكية الفردية، رغم أن مجتمعها بخير من حيث الالتزام الأخلاقي والسمت العام، قياسا بغيره من المجتمعات الإسلامية الحاضرة، وحتى قياسا بمجتمعات السلف. وكان الأحرى بها أن تتجه إلى إصلاح النظام العام، وبناء الولاء الاجتماعي على أسس إسلامية، لا على عصبيات قبلية جاهلية..
* أو حركة منصرفة إلى استنهاض الهمم واستثارة الحشود –وقد حصلت من ذلك على ما يكفي وزيادة – وكان الأصلح لها أن تنظم وتؤطر، وتحرص على صلابة النواة وتماسك الصف، تجنبا للتبدد والاندثار، واستعدادا لأوقات الضيق والحرج، وإعدادا ليوم الحسم..
* أو حركة صادفت انفراجا وحرية نسبية في بلدها، فظلت متخفية في كهوف السرية، فشلَّها الهاجس الأمني الذي استوردته من تجارب حركات أخرى. وكان الأوْلى لها أن تستغل الحرية المتاحة في تكثيف الدعوة والصدع بالخطاب، أملا في اكتساب المجتمع الذي هو الرهان الأول والأخير..
* أو حركة غرها الانفراج السياسي الظاهر فغالت في التعبير عن قوتها الكمية، واندفعت إلى المواجهة الهوجاء، ولم تحسب حسابا للقوى النوعية المتحكمة في المجتمع، والتي لا تغني مغالبتها بالكم المهلهل شيئا مهْما كثر. ولم تكن من قبلُ قد خططت لبناء قوة نوعية تدرأ بها خطر القمع والاضطهاد. فكانت النتيجة ثمنا فادحا من الدماء والأحقاد، تهدد مستقبل الدعوة، بل ووجود المجتمع من أصله..
* أو حركة عاكفة على إصلاح العقائد، ومجادلة الأموات حول بدعهم وانحرافاتهم، في مجتمع لا توجد فيه فرق بدعية ولا طوائف كلامية. وكان الأولى بها أن تحارب الاستعمار والتبعية السياسية المشينة، وتسعى إلى إصلاح النظام السياسي الفاسد الذي يتأسس على غبن الوراثة وعرف الجاهلية، ويفتح الأبواب مُشرَعة أمام أعداء الأمة، لينهبوا ثروتها ويمتهنوا كرامتها..
والسبب في كل هذه المساوئ المنهجية هو أن الحركات الإسلامية لم تستوعب مراتب العموم والخصوص بينها، ولم تحدد كل منها أولوياتها العملية بناء على تصور نابع من واقعها المعيش. فإلى متى الاستئسار للصورة الذهنية، والغفلة عن الواقع المتعين؟!
التميز والانعزالية
تحتاج الحركات الإسلامية إلى شيء من التميز وتقديم برامج مختلفة عن العرف السائد والفكر الغالب لإصلاح شأن الأمة. لكن التميز تحول عند بعض الحركات إلى هاجس مرَضي قادها إلى الانعزالية والبقاء على هامش المجتمع. والذي يدرس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم –وهي منبع الفكر المنهجي الإسلامي– لا يجد مثل هذا التوجس والريبة والحذر المرَضي. فقد كان في مجتمع المدينة أيام النبوة أصناف شتى من المؤمنين، يتفاوتون في مستوى إيمانهم وتقواهم، منهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات بإذن الله. لكن المجتمع كله أو جله كان مشاركا في نصرة الدين والتمكين له، فمتى نفر النفير هب الجميع لندائه، ولم يكن يتخلف منهم إلا منافق معروف النفاق، أو معذور قبل الله تعالى عذره. ولذلك كانت قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا – قبل توبة الله عليهم- صدمة لمجتمع المؤمنين آنذاك. وقد وقع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذنوب وأخطاء، دون أن يجعلهم ذلك على هامش المجتمع، أو يسد الباب أمامهم لنصرة الدين. ويكفي أن نعلم أن اثنين ممن شهدوا بدرا أقيم عليهم حد الخمر بعد ذلك، وهما نعيمان بن عمرو
[9] وقدامة بن مظعون[10] رضي الله عنهما.
ولعل من الأمثلة المعبرة في سيطرة هاجس التميز، وعدم النجاح في الموازنة بين العمق والامتداد، تجربة الجماعة الإسلامية في باكستان. فقد اعتادت الجماعة تقسيم أعضائها قسمين:
* "الأركان": وهم الأعضاء المنتظمون، ويتشكلون من صفوة الناس الذين برهنوا على التزامهم الكامل بتعاليم الإسلام، وانتظموا في الجماعة مدة مديدة، وبرهنوا على قوة الثبات على المبدإ وعمق الولاء للقيادة.
* "المتفقون": وهم الأعضاء المنتسبون، الذين يتعاطفون مع فكر الجماعة ويناصرونها، لكن القيادة لا تراهم مؤهلين للعضوية الكاملة، نظرا لنقص في التدين أو الوعي أو الولاء من وجهة نظرها
[11].
وترجع جذور هذا التقسيم إلى حرص العلامة المودودي وصحبه المؤسسين للجماعة على التمييز بين الإسلام هوية قومية، وبين الإسلام التزاما ونظام حياة: فقد تأسست دولة باكستان على فكرة إسلامية الأصل، عبر عنها العلامة محمد إقبال شعرا ونثرا، وتحول الإسلام إلى هوية سياسية وانتماء قومي لأبناء باكستان يميزهم عن هوية الدولة الهندوسية الأم، وظل جزءا من برنامج كل القوى السياسية الباكستانية، على تفاوت كبير في صدق التوجه وجدية الطرح. لكن المودودي وجد أن مجرد استقلال المسلمين في دولة خاصة بهم –على أهميته– ليس كافيا، وهو لا يعني أن الدولة ذاتها دولة إسلامية. فإسلامية الدولة أمر أكبر من مجرد وجود أغلبية مسلمة بين سكانها، أو الإحساس العام بالانتماء إلى أمة الإسلام. فكانت الغاية من إنشاء الجماعة الإسلامية منذ البدء هي تكوين صفوة تعلِّم الشعب الباكستاني المدلول الصحيح للدولة الإسلامية وتقوده إليه. وقد أشار المودودي في خطابه التأسيسي للجماعة عام 1941 إلى أن الجماعة لن تقبل العضو بمجرد انتمائه للإسلام دينا، وإنما لا بد أن يفهم العضو معنى ومقتضيات "الكلمة"، ويطبق الحد الأدنى من فرائض الإسلام
[12].
وليس في هذا بأس، لكن يبدو أن "الكلمة" تحولت فيما بعد إلى "كلمات"، وأن "الحد الأدنى" تحول إلى "حد أقصى". فدرجت قيادة الجماعة على التشدد في منح العضوية الكاملة، وغلت في ذلك حتى تجاوزت كل حدود. ورغم أهمية مبدإ الانتقاء في طور التأسيس، وفي بعض الظروف والمواقع، إلا أن المودودي وزملاءه نسوا أهمية الاستفادة من الولاء السياسي للإسلام الموجود لدى الشعب الباكستاني أكثر من أي شعب آخر تقريبا -بحكم تجربته المريرة مع الهندوس وظروف نشأة دولته- وأهمية توظيف ذلك الولاء العام لصالح الجماعة وبرنامجها السياسي، بغض النظر عن تفاوت الأفراد في مستوى الالتزام. فوقعوا أسرى هاجس التميز، وفرطوا في هذا العنصر التاريخي والاجتماعي المهم حرصا على نوعية التربية وعمق الوعي، ولم يستطيعوا الجمع بين مقتضيات الكم والكيف أو العمق والامتداد بتوازن. بل »ظل التأكيد على النوع –لا على الكم- هو السائد، ولذلك فإن الجماعة ليست حزبا جماهيريا، وإنما هي "جماعة"«
[13]. وقد ساد التصلب الهيكلي والانغلاق التنظيمي داخل الجماعة بسبب ذلك، وصادفت أغلب محاولات الإصلاح والانفتاح صدودا وإعراضا »وكثيرا ما وردت مقترحات بتوسيع القاعدة من خلال تخفيف شروط العضوية، لكن القيادة كانت دائما تجادل بأن ذلك سيحول "الجماعة الإسلامية" إلى حزب جماهيري كأي حزب آخر«[14].
وهكذا فخلال الثلاثين عاما التي قاد فيها المودودي الجماعة (1941-1971) لم يتجاوز عدد أعضائها المنتظمين ألفين وخمسمائة عضو
[15]. وبعد مرور حوالي نصف قرن على التأسيس، ظل عدد أعضاء الجماعة المنتظمين أقل من ستة آلاف عضو رغم أن عدد المنتسبين إليها -أو "المتفقين"- قارب ثلث المليون[16]. ولك أن تتصور –بمنطق المغالبة السياسية- ما الذي يستطيع ستة آلاف عضو فعله، في شعب جاوز تعداده مائة وخمسين مليونا.
لقد كانت الجماعة الإسلامية في باكستان نشطة سياسيا أيام المودودي، وقد تزعمت قيادة الرأي العام في قضايا مهمة، مثل قضية الدستور الإسلامي، ومقارعة القاديانية. لكن هذا الوهَج السياسي يمكن إرجاعه إلى ديناميكية المودودي وشجاعته، أكثر من هيكل التنظيم المنغلق.
وهكذا ظلت هذه الحركة التي تعتبر من أعرق الحركات الإسلامية، وأبعدها أثرا فكريا على غيرها من الحركات تدور في حلقة مفرغة من الجمود السياسي، بل تتقهقر وتفقد نفوذها الشعبي، بسبب عجزها عن التوفيق بين منهج الانتقاء النوعي ومنهج الحشد الكمي، وتتحول تدريجيا إلى جمعية ثقافية مغلقة، أو حركة صوفية انعزالية.
وتعتبر الانتخابات البرلمانية في باكستان مؤشرا ذا دلالة عميقة في هذا المضمار: فقد حصلت الجماعة على ثمانية مقاعد فقط في انتخابات 1988، وعلى نفس العدد في انتخابات 1990، ثم تدهور العدد إلى ثلاثة فقط في انتخابات 1993.
وكانت المحصلة النهائية لكل ذلك أن باكستان لم تصبح دولة إسلامية، بسبب عجز "الجماعة" عن توظيف العوامل التاريخية في هذا الاتجاه، ولم تتحول إلى دولة علمانية صريحة نظرا لوجود تلك العوامل ذاتها، التي تجعل العلمانية الصارخة نقيضا لمبدإ وجود الدولة وهويتها وتميُّزها عن عدوها التاريخي (الهند). بل ظلت باكستان –ولا تزال– "دولة تخليط"، تماما مثلما وصف العلامة عثمان بن فوديو بلده (نيجيريا)، حينما استفتاه مستفت هل هي "دار إسلام" أم "دار كفر"؟ فقال: لا هذه ولا تلك، وإنما هي "دار تخليط".
ومما يبشر بالخير أن القيادة الحالية للجماعة الإسلامية بباكستان بدأت تدرك عمق الأزمة التي وضعت الجماعة فيها نفسها. فخففت من شروط العضوية، وفتحت الباب لمزيد من المرونة الداخلية التي يُؤمَّل أن تغذيها بدماء جديدة وأجيال جديدة أوعى بلعبة السياسة من جيل التأسيس. ففي تقرير تقييمي نشرته الجماعة على موقعها الألكتروني عام 2000 اعترفت بأخطاء الماضي، ووعدت بإصلاح المستقبل. فقد ورد في التقرير: »لقد أثرت الحركة [الجماعة] تأثيرا بالغا في القطاعات المتعلمة من المجتمع، لكن تأثيرها على عوام الناس لا يزال بحاجة إلى توسيع ومد. وقد طورت الجماعة خطابا سياسيا جديدا لهذا الغرض، لكن يبقى أمامها جهد مضن للتغلب على مراكز القوة التقليدية في المجتمع، لأن أخلاق الجماعة وفكرها لم يتحولا بعد إلى قوة سياسية ذات وزن«. وينتهي التقرير إلى الاعتراف بالحقيقة المرة: »إن الجماعة الآن ذات أثر فعال كقوة أديولوجية، أو كجماعة ضغط لها وزنها في الشارع، لكنها لم تصل بعد إلى مستوى القوة السياسية«. وقد أثمرت هذه الاستراتيجية الجديدة ثمرات طيبة. فبعد مؤتمر 1997 الذي تبنت فيه الجماعة هذا التوجه، ارتفع عدد أعضائها إلى مليوني شخص. وتؤمل القيادة الآن أن يصل العدد إلى خمسة ملايين في المستقبل القريب. وبذلك يستوي جسم الجماعة، وتبدأ طورا جديد من النمو، بعيدا عن هواجس الخصوصية ومساوئ الانعزالية. وفي تجربة الجماعة الإسلامية بباكستان درس للحركات الإسلامية الأخرى جدير بالاعتبار.
الالتزام والمبادرة
تأثرت بعض الحركات الإسلامية الحديثة بميراث المسلمين الفكري، وواقعهم السياسي المزري، حيث يطالب الحكام الرعية بالطاعة، دون أن يقدموا مقابلها من الحرية. فظلت هذه الحركات تلح في أدبياتها على معاني الطاعة والالتزام والانضباط الحركي، ولم توازن ذلك بفتح مسالك للمبادرات الفرعية والفردية، والسماح بالمرونة اللازمة في التربية والتوجهات والإجراءات.
وقد يستغرب المرء –بحق- هذا التوجه من حركات تأسست على الاختيار الطوعي، حيث المنتظَر أن تكون أكثر تركيزا على المبادرة والإبداع منها على الالتزام والانضباط، لأن سبيلها إلى الطاعة هو الإقناع لا الإكراه.
وقد آن الأوان للحركات الإسلامية أن تراعي للفرد مكانته داخل الهيكل الحركي، وتحمله مسؤولياته دون لبس، وتمنحه الحرية اللازمة لكل إبداع، وتثق في إخلاصه وخبرته، وتغفر له أخطاءه التي هي ثمن العمل. فطغيان الطاعة على الحرية، والالتزام على المبادرة، قد يحافظ على الواقع الموجود، لكنه لا يدفعه نحو الأحسن. ومن مساوئ هذا الطغيان:
* أن الفرد لا يجد بديلا عن الواقع السياسي والاجتماعي السائد في مجتمعه، وهو الذي فاء إلى ظلال الصحوة بعد أن اكتوى بنار استبداد الحكام وفسادهم، وفي ذلك ما فيه من أثر سلبي على جاذبية الحركة ورسالتها.
* ثم إن تجاوبه مع مبادرات الحركة وأوامرها ينطبع بطابع السلب. وتلك نتيجة منطقية لكل استبداد: إما أن يقاومه الناس مقاومة فعلية إيجابية، وإما أن يقاوموه مقاومة سلبية، فلا يتجاوبون مع أهدافه ومساعيه.
* ونتيجة لكل ذلك يسود فكر التبرير والتماس المعاذير، ويلقي كلٌّ بالتبعة على الآخر، وتضيع المسؤوليات في زحمة الجدل والعتاب، بعد أن يتنصل الفرد من مسؤوليته، ويلقيها على كاهل الحركة أو القيادة.
إن مفهوم الطاعة نتاج لمزيج مركب من الرضى القلبي والضبط التنظيمي، فلا بد من مراعاة التوازن بينهما، حتى لا تتميع المسؤولية بدعوى الحرية، ولا يحل الاستبداد في عمل الحركة الذي هو في أصله عمل طوعي. ونظرا لأن فقه الطاعة بمعنى التلقي السلبي والانضباط البارد هو السائد الآن، فإن ما تحتاجه الحركات الإسلامية اليوم هو العودة إلى التوازن، من خلال التأكيد على ذاتية الفرد، ودوره الذي ينسجم مع أدوار غيره دون إكراه أو ضغط، بل بدافع من الوعي بالمسؤولية. وتستطيع الحركات الإسلامية أن تصل إلى هذا التوازن من خلال ما يلي:
* تشجيع المبادرة في خطابها الداخلي، حتى يدرك الأعضاء أن مجرد الالتزام بالنظم واللوائح –على أهميته- ليس معيار التفاضل. بل المعيار هو المبادرة والاجتهاد لدفع مسيرة الحركة ورسالة الإسلام قدُمًا.
* الابتعاد عن الصرامة الفكرية والمذهبية في تربيتها لأعضائها، وتعويدهم على القبول بتعدد الآراء والاجتهادات الفقهية والفكرية والعملية، وعدم تبكيتهم على الرأي الشاذ المصحوب بحسن القصد.
* تشجيع المبادرة قبل إقرار الخطط والبرامج، وتشجيع النقد بعد اعتمادها، حتى يدرك الفرد أهمية رأيه وخبرته. وعدم الاكتفاء بالشورى الرسمية التي تنظم اللوائح طرائقها عند اتخاذ القرارات أو انتخاب القيادات.
* تبني النظام اللامركزي الذي يقسم الحركة جغرافيا ووظيفيا عدة تقسيمات، ويمنح صلاحيات كبيرة وحرية واسعة للفروع في القضايا التربوية وغيرها مما لا يمس عموم الحركة.
* الاقتصاد في الأوامر الملزمة، وحصرها في الأمور الاستراتيجية الحساسة، وترك الأمور الأخرى للفروع، مع مساعدتها بالرأي الاستشاري غير الملزم، دون التزام أو إلزام.
إن التوازن بين الحرية والنظام، بين الوجدان والسلطان، هو الشرط لأي عمل جماعي مبدع. وقد آن الأن لتدرك الحركات الإسلامية ذلك، وتعيد وهج الحرية والحيوية لصفها.
الوحدة والتباين
وغير بعيد عن ثنائية الالتزام والمبادرة، ثنائية أخرى لم تفلح بعض الحركات الإسلامية في حسن التعامل معها، وهي الوحدة والتباين: فبعض قيادات هذه الحركات فهمت النمطية والانضباط على أنهما الضامن الوحيد للوحدة، ووقفت موقفا متوجسا من أي نزوع إلى التباين والاختلاف الاجتهادي داخل الصف، واعتبرته خروجا على الطاعة، ومروقا من الجماعة، وإثارة للفتنة. ولم تفهم طبيعة الالتزام الطوعي الذي تأسس عليه عملها، بل لم تفهم أن التباين والاختلاف من سنن الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا. فإما توظيفهما إيجابيا لخدمة المسيرة، وإما الوقوف في وجههما دون فائدة.
ولعل هذه القيادات لا تزال محصورة بطوق الفكر الإسلامي التاريخي الذي أثر فيه هاجس الفتنة تأثيرا عميقا، حتى أساء الظن بكل محاولات الإصلاح مهما كانت ضرورة، والوقوف في وجه القادة مهما كان متعينا، إلى حد أن بعض فقهاء الأزهر أفتوا بعدم جواز مقاومة "نابليون" أيام استعماره لمصر، متعللين بأن ذلك "فتنة"، وألف أحد الفقهاء الموريتانيين أيام الاستعمار الفرنسي كتابا سيء الصيت ينحو نفس المنحى، سماه "النصيحة العامة والخاصة في التحذير من قتال الفرانْصة" [=الفرنسيين]، رغم أن أخاه –وهو فقيه كذلك- كان يقود حركة الجهاد ضد المستعمر في ذات الوقت.
وسبب آخر لهذا المنحى من التفكير والعمل هو أن قيادات بعض الحركات الإسلامية أدركت بعض وظائف التنظيم وغاب عنها بعضها: ففهمت أهمية الضبط والوحدة، وهما من وظائف التنظيم الأساسية، لكنها غفلت عن وظيفتي الاكتساب والاستيعاب: فكل تنظيم اكتفى بحماية الموجود وقنع به، ولم يمد أذرعه لاكتساب دماء جديدة، واستيعاب طاقات متجددة، فهو ميت لا محالة.
والحركات الإسلامية اليوم بحاجة إلى تبني منظور مختلف، لا يرى التباين الداخلي خطرا على الوحدة، بل يراه درعها وحاميها: فلا بقاء لوحدة قائمة على القهر المادي أو المعنوي، ولا ضمان لوحدة أحسن من انبعاثها من وجدان الناس. وبذلك تستطيع هذه الحركات المحافظة على تماسك الصف، ووحدة الغاية، وتنسيق الجهد، من خلال تنوع وتباين يضمنان حرية الأفراد والفروع، بحيث تأخذ الحركة من كلٍّ بحسب وسعه واستعداده وفهمه، وتستوعب أكبر عدد ممكن من الذين يحبون الله ورسوله، على تباين مستوى إيمانهم وتقواهم، ووعيهم وولائهم، ومشاربهم الاجتهادية، وخلفياتهم الفقهية، وتجاربهم الحياتية. ولا ترغم الجميع على مسار نمطي واحد يقتل روح الإبداع والاندفاع الذاتي، الذي هو مصدر كل عمل أصيل.
لكن هذا الفقه غاب عن بعض الحركات الإسلامية، وكان من نتائج هذا الخلل الفكري اختلال تنظيمي، تمثل في المركزية الطاغية، وتدخُّل القادة في كل صغيرة وكبيرة..
وليس من ريب في فائدة الصرامة النمطية في طور التأسيس –كما أسلفنا- لتعميق معنى الجماعة في نفوس الأفراد، وإلزامهم بمعاني النظام والطاعة، لكن هذه الصرامة لا معنى لها بعد استقرار النموذج وبناء الأسس، كما هو حال الحركات أغلب الحركات الإسلامية اليوم. فالمطلوب صرامة ونمطية أيام التأسيس، وسماحة وحرية أيام النضج، فلكل مقام مقال، ولكل عصر رجال وأشكال.
الفصل والوصل
ومن الجوانب التنظيمية الأساسية التي تواجه الحركات الإسلامية إشكال الفصل والوصل. ونقصد بذلك قدرة الحركة على الفصل بين المهام المتداخلة، بل وفصل بعض من تلك المهام عن الهيكل التنظيمي الأساسي، مع الإبقاء على رباط يُخضع تلك الوظيفة لتوجيه الحركة عن بعد. ولجدلية الفصل والوصل أبعاد ثلاثة: سياسية-إدارية، وتربوية-تكوينية، وأمنية-وقائية.
*ففي المجال السياسي–الإداري تحتاج الحركات الإسلامية إلى توسيع نطاق قاعدتها الشعبية وكمها العددي، لكي تستطيع منازلة الأحزاب والحركات السياسية الأخرى. لكن إشكالا تنظيميا يفرض نفسه كلما تبنت الحركة هذا الخيار، وهو إشكال الازدواجية القيادية والتنظيمية، وما قد يترتب عليها من ارتباك في التسيير والإدارة، وثنائية في القرار والولاء، وما تثيره من توجس لدى الخائفين على الحركة من الغرق في كم بشري غير منظم، يتحكم فيها بدلا من أن يكون مددا لها. وأحسن وسيلة للتغلب على ذلك هي الفصل بين القيادة السياسية والقيادة الإدارية، بحيث تتولى القيادة السياسية التعاطي مع الشأن السياسي، بما فيه من تعامل مع المتعاطفين الذين لا يربطهم بالحركة رباط تنظيمي، وتتولى القيادة الإدارية شأن الحركة الداخلي الخاص بها من دون الناس. وبهذا الفصل تنجح الحركة في الإبقاء على هيكلها التنظيمي قائما، وهي تعمل من خلال حركة جماهيرية مفتوحة في ذات الوقت.
*وفي المجال التربوي-التكويني تفيد استراتيجية الفصل والوصل في أمور كثيرة، أهمها الفصل بين مجالي التربية والتكوين. وهو فصل ضروري للاعتبارات التالية:
- أن مهمة التربية أخلاقية مبدئية، ومهمة التكوين منهجية عملية. فهدف التربية هو الالتزام، وهدف التكوين هو الفاعلية.
- أن التربية موجهة إلى عموم المجتمع، وليست مقصورة على أعضاء الحركة، بينما التكوين يتجه إلى الأعضاء الذين ثبت ولاؤهم حصرا.
- أن للتربية وظيفة اكتسابية –أو هكذا ينبغي أن تكون– بينما التكوين لا يهدف إلى اكتساب أعضاء جدد بشكل مباشر.
- أن للتربية وظيفة دعوية عامة وهي زيادة مساحة الخير والفضيلة في نفوس أفراد المجتمع، حتى ولو لم ينضموا إلى الحركة، بينما التكوين يقتصر على تعميق الخبرة لدى أعضاء الحركة.
- أن مضمون التربية يتعلق بالفضائل الإسلامية العامة، وزيادة العلم الشرعي لدى السامعين، بينما يركز مضمون التكوين على الخبرات السياسية والإدارية والفنية التي يحتاجها العضو العامل في مسيرته.
وتقتضي استرتيجية الفصل والوصل أن تكون التربية مفتوحة على المجتمع، بما يعمم الخير ويرسخ ريادة الحركة في المجتمع العام، بينما يكون التكوين مغلقا وموجها إلى ذوي الثقة والالتزام من أعضاء الحركة. وبهذا يتحقق الإتقان في الوظيفتين كلتيهما: فتتسع التربية وتؤدي رسالتها في المجتمع، ويتم تأمين التكوين الفني وحصره في أهله.
* وفي المجال الأمني الوقائي فإن استراتيجية الفصل والوصل تقتضي اتخاذ اللامركزية وسيلة للتأمين ضد قوى القمع والاستبداد. وربما استغرب المتشبثون بالفكر التنظيمي التقليدي –ممن لم يستوعبوا معادلة الإسرار والإعلان- وجود نظام لامركزي وأسر مفتوحة في حركة سرية، ورأوا في ذلك تسيبا وتعريضا لأمن الحركة للخطر. لكن قراءة التاريخ التنظيمي للحركات الإسلامية تفيد بأن اللامكرزية أداة تأمينية ناجعة للغاية.
وقد تتجلى هذه اللامركزية التأمينية في الفصل بين كيان الحركة في الداخل وامتدادها في الخارج. أو في الفصل بين أجنحتها المختلفة بحسب الوظيفة والاختصاص. ومن الأمثلة الناجحة على النوع الأول ما فعلته الحركة الإسلامية في السودان من فصل بين قيادتها الداخلية وقيادتها الخارجية في السبعينات، أيام الصراع مع النميري، حيث كانت القيادة الحركية في الخارج تعمل بالتنسيق مع أحزاب"الجبهة الوطنية"، وتخوض حربا سياسية وعسكرية ضد النظام، بينما لم تربطها أية صلة تنظيمية مع القيادة في الداخل، وهو أمر ضمن لقيادة الداخل قدرا من الأمن لا بأس به، فكانت ضربات النميري ضد الحركة داخليا ضربات عشوائية، لا تؤثر على صميم التنظيم الداخلي. وقد اتضح ذلك في المحاولة الانقلابية التي قادها المقدم حسن حسين ضد النيمري، ثم محاولة الغزو التي نفذتها "الجبهة الوطنية" ضده يوم 2 يوليو 1976، وكان للحركة الإسلامية دور في كلتا العمليتين. لكن ضربات النميري العنيفة التي أعقبتهما –رغم اتساعها- لم تؤثر على بنية الحركة داخل السودان تأثيرا كبيرا، لأنها منفصلة عن القيادة السياسية في الخارج.
أما النوع الثاني –وهو الفصل بين الأجنحة- فلدينا مثالان بليغان على نجاحه وهما "حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين" (حماس)، و"الحركة الإسلامية في إسرائيل" التي تتألف من مسلمي فلسطين 1948. وليس بخاف إن هاتين الحركتين تعملان في أشد الظروف الأمنية تعقيدا، وفي ظل مراقبة من جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشين بيت) الذي يعتبر من أكثر الأجهزة الأمنية في العالم بشاعة ودموية. لكن الحركتين تبنتا نظام اللامركزية التنظيمية والأسر المفتوحة لأهداف أمنية وقائية. ودلت تجربتهما على نجاح هذه الاستراتيجية، كما اعترف بذلك العدو نفسه. فقد نشر مركز "جافي" للدراسات الاستراتيجية بجامعة تل أبيب عام 2000 على موقعه الألكتروني، دراسة بعنوان: "الإسلام الراديكالي في الصراع الوطني"
[17] أعدها اثنان من كتاب المركز هما "آمات كرز" و"نحمان تال" وتحدثا فيها بإسهاب عن البنية الهيكلية لحركة المقاومة الإسلامية حماس فقالا: »... وابتداء من العام الثالث من أعوام الانتفاضة [الأولى] بدأت "حماس" تتحول تدريجيا إلى نظام اللامركزية وتوزيع السلطة. وكانت هذه التغييرات استجابة دفاعية ضد الجهود المضنية التي بذلتها قوات الأمن الإسرائيلية من أجل الحيلولة بين حماس وبين التجذر داخل بنية المجتمع الفلسطيني. وهكذا كانت الحركة قادرة على التكيف مع الظروف الناتجة عن الإجراءات الإسرائيلية ضدها، أو الناتجة عن عوائق أخرى، من خلال تعديلات في التنظيم، وتغييرات في توزيع مراكز قوتها… إن منهج عمل التنظيم [حماس] -كما اتضح على مر السنين- يعتمد على فكرة الفصل بين أجنحة التنظيم المسؤولة عن مهام مختلفة. وقد كان هذا الفصل بمثابة الدرع الذي حمى بنية الحركة من اختراق قوات الأمن الإسرائيلية، ثم من اختراق السلطة الوطنية الفلسطينية لها فيما بعد… وفي ذات الوقت كان هنالك اتصال وتنسيق واضح بين مختلف الوحدات والهياكل … وهكذا فإن مبدأ الفصل بين الأجنحة كان تعبيرا عن منطق تنظيمي واعتبارات تكتيكية في ذات الوقت«.
وفي دراسة مستقلة لنحمان تال بعنوان "الحركة الإسلامية في إسرائيل"
[18] نشرها نفس المركز على موقعه بنفس التاريخ، أشار الكاتب إلى أن البنية التنظيمية للحركة تشتمل على نمطين من الأسر: »أسر مفتوحة، وأسر مغلقة. أما الأسر المفتوحة فتستوعب كل المنضوين تحت لواء الحركة، وأما الأسر المغلقة فهي خاصة بأهل الثقة من الأعضاء الذين أبدوا قابلية قيادية. وتعمل الأسر المغلقة سرا، وتنكر الحركة وجود هذه الخلايا السرية أصلا... «.
فهل الحركات الإسلامية في بلداننا أكثر عرضة للخطر من هاتين الحركتين؟!؟ وهل من الضروري بعد هذا أن يدرُس أبناء الحركات الإسلامية العقيدة والفقه والسيرة النبوية في غرف الظلام؟!؟ إننا بذلك نعزل الحركة عن المجتمع، ونزيد الهواجس والحواجز النفسية بينها وبين الناس. ولا تسألْ عن مصير حركة تغيير هربت من مجتمعها وأساءت الظن به.
[1] محمد إقبال: ديوان "جناح جبريل" ص 78
[2] النفيسي: "الإخوان المسلمون في مصر، التجربة والخطأ" (ضمن كتاب "الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية ص 259)
[3] Abdelwahab AL-Affendi: Studying my movement: Social Sciences without cynicism (in: International Journal of Middle Eastern Studies, 23, 1991 p. 85)
[4] حول دور عبد الرحمن السندي انظر رؤيتين مختلفين لدى كل من أحمد كامل: "الإخوان المسلمون ، نقاط على الحروف" وصلاح شادي : "حصاد العمر"
[5] تحدث صلاح شادي عن هذه الأمور في كتابه: "حصاد العمر"
[6] الدكتور حسن مكي: حركة الإخوان المسلمين في السودان (1944-1969) ص 6 ط 1982
[7] مكي: (نفس المرجع) ص 152
[8] د. محمد عمارة: "من مظاهر الخلل في الحركات الإسلامية المعاصرة" (ضمن كتاب: "الحركة الإسلامية، رؤية مستقبلية ص 336)

[9] صحيح البخاري 6/2488
[10] سنن البيهقي 8/315
[11] حول هذا التقسيم انظر: Dr. Kalim Bahadur: The Jamaa’t –I- Islami of Pakistan, Political Thought and Political Action p. 146-147
[12] انظر: Dr. Bahadur p. 13
[13] Oxford Encyclopedia of the Modern Islamic World 2/357
[14] Dr. Bahadur p. 147
[15] نفس المرجع والصفحة
[16] Oxford Encyclopedia of the Modern Islamic World 2/356
[17] Amat Kurz & Nahman Tal : HAMAS, Radical Islam in a national struggle
[18] Nahman Tal : The Islami Movement in Israel

السنة السياسية في بناء السلطة وأدائها




محمد بن المختار الشنقيطي




السنة السياسية
في بناء السلطة وأدائها




سلسلة رسائل الفقه السياسي (1)

إذا همَّ ألقى بين عينـيه عزمـه *** ونكَّب عن ذكر العواقب جانـبـا
ولم يستشر في أمره غير نفسـه *** ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا[1]
هكذا افتخر الشاعر بشر بن ناشب بعدم النظر في العواقب، ونبذ المشاورة، والاحتكام إلى منطق القوة. لكن للإسلام في الشأن العام رؤية مختلفة، أساسها الشورى والعدل والحرية، وترجيح مصلحة الجماعة المؤمنة على ذات الفرد المتضخمة. وغاية هذه الرسالة الأولى من "رسائل الفقه السياسي" أن تسهم في تجلية المبادئ الإسلامية المؤسِّسة لبناء السلطة وأدائها، من خلال استقراء لبعض ما ورد في السنة النبوية وسنة الخلفاء الراشدين من سوابق سياسية في هذا المضمار. ونحاول عبر استنطاق هذه النصوص استنباط إجابات على بعض الإشكالات ذات الصلة بهذا الشأن، مثل:
· معايير الكفاءة السياسية في الإسلام
· والفرق بين الشورى والمشاورة
· ومن يشملهم الأمر بالشورى والمشاورة
· ومدى الإلزام والإعلام فيهما
· ووضع المشاورة في موضعها
· وتخصيص أهل العلم والخبرة بمكانة خاصة في هذا الأمر
· واعتبار الأغلبية مرجحا وقت التشاور.
· وحق المرأة المسلمة في المشاركة في الشورى والمشاروة
ولسنا نطمح إلى تقديم إجابات شافية على جميع هذه الإشكالات العملية - بل نترك ذلك لأهله المؤهلين له- وإنما هي محاولة لكشف جوانب من النموذج الإسلامي في بناء السلطة وأدائها، عسى أن يكون ذخرا للعاملين على بناء سلطة شرعية في البلاد الإسلامية، مع لفت نظر المهتمين بالسياسة نظريةً وممارسةً إلى ثراء السنة النبوية في هذا المضمار، وضرورة الاغتراف منها والاهتداء بهديها.
الأمير أجير: "إن خير من استأجرت..."
"دخل أبو مسلم [الخولاني] على معاوية [بن أبي سفيان]، فقام بين السماطين فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: مه، فقال [معاوية]: دعوه فهو أعرف بما يقول، وعليك السلام يا أبا مسلم. ثم وعظه وحثه على العدل."
[2] ولم يكن ذلك التابعي اليماني الزاهد -وهو يستعمل لفظ الأجير- متلاعبا بألفاظه أو متطاولا على قائده، وإنما كان منطلقا من التصور الإسلامي الحق لمنزلة الحاكم وعلاقته بالأمة: إنها علاقة الأجير برب العمل. فالأمة هي رب العمل، والحاكم أجير لها، أنابته لأداء وظيفة الحكم، لقاء أجر مادي معلوم، ومكانة معنوية مشروطة، والتزمت معه بعقد اختياري طرفاه: الأمانة والنصح من الحاكم، والطاعة والنصرة من المحكوم.
ولما كان الحاكم أجيرا للأمة، كان من المطلوب أن يتصف بصفتي الأمانة والقوة اللتين امتدحهما القرآن الكريم في الأجير على لسان ابنة شعيب: "إن خير من استأجرت القوي الأمين."
[3] أما الأمانة فهي تشمل الصفات الأخلاقية التي تكبح جماح الحاكم، وتكون وازعا له من نفسه يمنعه من أن يستأثر بالسلطة والثروة، أو يؤثر بهما ذويه، أو يسيء استعمالهما أيَ نوع من الإساءة كان. وأما القوة فهي تشمل الخبرات السياسية والعسكرية والفنية التي تمكّنه من الاضطلاع بمهمته على الوجه الأكمل والأصلح للأمة.
اجتماع الأمانة والقوة في الناس قليل
وقد اشتهر أفذاذ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماع الأمانة والقوة فيهم، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه " قوي أمين لا يخاف في الله لومة لائم"، وسنورد كامل نص الحديث فيما بعد. ومنهم عتاب بن أسيد رضي الله عنه الذي ورد فيه من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وكان شديدا على المريب لينا على المؤمنين…"
[4] و"عن عمر بن أبي عقرب سمعت عتاب بن أسيد وهو مسند ظهره إلى بيت الله يقول: والله ما أصبت في عملي هذا الذي ولاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثوبين معقدين كسوتهما مولاي كيسان."[5]
كما اشتهر عدد من الصحابة بالأمانة بمعناها السياسي الذي نقصده هنا، منهم أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم "أمين هذه الأمة"، وهو يوليه على نجران: "عن حذيفة قال: جاء العاقب والسيد، صاحبا نجران، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال : فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيا فلاعنَنَا لا نفلح نحن ولا عقبُنا من بعدنا. قالا : إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا. فقال [النبي صلى الله عليه وسلم]: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين. فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح. فلما قام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة"
[6].
لكن الأمانة والقوة قلما تجتمعان في الشخص الواحد، وإذا اجتمعتا فقل أن يكون ذلك بتوازن، وهنا لب الإشكال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "أشكو إلى الله جَلَد الفاجر وعجز الثقة"… ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم مع أنه أحيانا يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنه مرة رفع يديه إلى السماء، وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد"… وكان أبو ذر رضي الله عنه أصلح منه في الأمانة والصدق، ومع هذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفا …لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم""
[7] . ففي هذا النص التحليلي يورد ابن تيمية مثالين على عدم التوازن في الأمانة والقوة لدى اثنين من الأكابر: المثال الأول هو خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي غلبت عليه صفة القوة، فأحسن الذهبي في وصفه بأنه "سيف الله تعالى، وفارس الإسلام، وليث المشاهد"[8]، لكن قوته الطاغية على أمانته هي التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يستنكر قتله قوما أظهروا الإسلام، ويتبرأ إلى الله من فعله. وهي التي جعلت عمر يستنكر قتله مالك بن نويرة، ثم يعزله فيما بعد ويقول: "إن في سيف خالد رهقا"[9].يعلل ابن تيمية ذلك بقوله: "لم يكن خالد معاندا للنبي صلى الله عليه وسلم، بل كان مطيعا له، ولكن لم يكن في الفقه والدين بمنزلة غيره، فخفي عليه حكم هذه القضية. ويقال إنه كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، وكان ذلك مما حركه على قتالهم."[10]
والمثال الثاني هو أبو ذر رضي الله عنه، وقد كان إماما في الزهد والورع وصدق اللهجة ونقاء السريرة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أبى أن يوليه إمارة، وعلل ذلك بضعف أبي ذر الذي يفقده عنصرا من عناصر الكفاءة السياسية بغض النظر عن ورعه الشخصي، إذ أن الأمانة من دون قوة لا تكفي للاضطلاع بأمر المنصب العام، ومثلها القوة من غير أمانة.
ويورد ابن تيمية مثالا آخر على عدم التوازن بين الأمانة والقوة، هو ذو النورين أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه الذي طغت أمانته على قوته فآنس فيه بعض الطامعين ضعفا. قال ابن تيمية: "...وأما عثمان رضي الله عنه فإنه بنى على أمر قد استقر قبله بسكينة وحِلم وهدى ورحمة وكرم، ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته، ولا فيه كمال عدله وزهده، فطُمِع فيه بعض الطمع، وتوسعوا في الدنيا، وأدخل من أقاربه في الولاية والمال، ودخلت بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمور أنكرت عليه، فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا، وضعف خوفهم من الله، ومنه، ومن ضعفه هو، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال ما أوجب الفتنة حتى قتل مظلوما شهيدا."
[11].
المواءمة والتكامل يحفظان التوازن
إن عدم اجتماع الأمانة والقوة في أغلب الناس يثير إشكالا عمليا يمكن التخفيف منه من خلال مبدأي المواءمة والتكامل. أما المواءمة فهي إدراك لملابسات المنصب، وصلة ذلك بأشخاص معينين، بغض النظر عن خبراتهم الشخصية. وهو درس يمكن استنباطه من تأمير النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على جيش لقتال الروم، رغم أن أسامة رضي الله عنه لم يكن في مستوى كبار المهاجرين والأنصار الموجودين في جيشه من حيث التمرس بالحرب والخبرة بالسياسة. لكن النبي صلى الله عليه وسلم "أرسله إلى ناحية العدو الذين قتلوا أباه، لما رآه في ذلك من المصلحة"
[12] مصلحة وجود دافع زائد لديه، ينضاف إلى الدافع العام الكامن في نفس كل مؤمن. ويبدو أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يتطلع إلى هذا الأمر منذ مدة: "قال قيس بن حازم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن الراية صارت إلى خالد [في مؤتة] قال: فهلا إلى رجل قتل أبوه، يعني أسامة."[13]
أما التكامل فهو أن يكون الحاكم صادقا مع الله ومع الأمة، مدركا لجوانب القوة والضعف في نفسه، فيبحث في رعيته عمن يستكمل به نقصه، ويتدارك به قصوره، حتى ولو كان الحاكم من أهل الأمانة والقوة، لأن التوازن المطلق كمال مطلق، وهو غير متاح للبشر. يشرح شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك في تحليله لتولية الصديق خالدا وتولية الفاروق أبا عبيدة، فيقول: "إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان شديدا في الله فولى أبا عبيدة لأنه كان لينا، وكان أبو بكر لينا وخالد شديدا على الكفار، فولى اللين الشديد وولى الشديد اللين ليعتدل الأمر، وكلاهما فعل ما هو أحب إلى الله تعالى في حقه."
[14] وإذا آنس الحاكم من نفسه قوة، وكان قادرا على مراقبة ولاته ومحاسبتهم بصرامة، أمكنه تولية كل من لديه خبرة مهما يكن مستوى الأمانة عنده ضعيفا، تأسيا بسنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال ابن تيمية: "كان عمر بن الخطاب يستعمل من فيه فجور، لرجحان المصلحة في عمله، ثم يزيل فجوره بقوته وعدله."[15]
إن منطق المواءمة والتكامل هذا هو الذي دفع أبا بكر الصديق إلى التشبث بخالد بن الوليد في وقت ارتداد العرب ورميهم للإسلام عن قوس واحدة، رغم أنه كانت لدى الصديق مآخذ على خالد منها سيفه "المرهق" ، وتصرفه في المال، ومخالفته للخليفة، إذ "كان خالد إذا صار إليه المال قسمه في أهل الغنائم، ولم يرفع إلى أبي بكر حسابا، وكان فيه تقدم على أبي بكر يفعل أشياء لا يراها أبو بكر."
[16] لكن بسالة الرجل وتجربته الحربية لم تكن لتسمح للصديق بعزله وهو يواجه مأزق الردة، إدراكا منه لرجحان الاعتبارات العسكرية على غيرها يومذاك. ولهذا "حين أشار عليه عمر بعزله قال أبو بكر: فمن يُجزئ عني جزاء خالد؟"[17]
الشورى والمشاورة تعصمان من الزلل
إذا كانت دراسة حياة الرعيل الأول تبين الضعف البشري والنقص الفطري من حيث صعوبة اجتماع الأمانة والقوة، واستحالة اجتماعهما بتوازن مطلق، وكان الواقع الحسي يشهد ببعد حكامنا عن مستوى ذلك الرعيل في الصدق مع الله ومع الأمة، فما هو الحل العملي لذلك الإشكال المتمثل في عدم اجتماع الأمانة والقوة غالبا؟لقد قدم الإسلام أروع حل عملي لذلك، وهو سلطان الأمة الذي يتجسد في مبدأين: الشورى في بناء السلطة، والمشاورة في أدائها. فبالشورى تختار الأمة أقرب الناس اتصافا بصفتي الأمانة والقوة، ولا يفرض عليها خيار مسبق بالوراثة أو بالغلبة. وبالمشاورة تستحث الأمة الحاكم الضعيف، وتلجم الحاكم القوي، وتحتفظ بحقها في عزل أي منهما واستبداله بالأصلح.
ورد مبدأ الشورى في قوله تعالي في وصف المؤمنين: "وأمرهم شورى بينهم"
[18] وورد مبدأ المشاورة في أمره تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: "وشاورهم في الأمر."[19] وما ورد في الكتاب الكريم هنا مجملا، ورد في السنة النبوية السياسية مفصلا بالقول وبالفعل. لكن من المستحسن التمييز منهجيا بين مبدإ الشورى ومبدإ المشاورة، إذ الشورى ترتبط بالمداولات المتعلقة بوجود السلطة ابتداء وبشرعيتها، أما المشاورة فترتبط بالمداولات المتعلقة بأداء السلطة وإدارتها وتسييرها. وهذا التمييز المنهجي مبني على اعتبار شرعي وآخر لغوي:
أما الاعتبار الشرعي فهو أن المشاورة وردت في القرآن الكريم في سياق الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "وشاورهم في الأمر"، أما الشورى فقد وردت في سياق الحديث عن المؤمنين: "وأمرهم شورى بينهم" فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يُؤمر بالشورى، وإنما أُمر بالمشاورة، أما المؤمنون فهم مأمورون بالشورى نصا، ومأمورون بالمشاورة ضمنا، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. وفائدة ذلك في التمييز بين الشورى والمشاورة، هي أن الأنبياء لا يستمدون قيادتهم من الأمة، فهم ليسوا بحاجة إلى الشورى ذات الصلة ببناء السلطة وشرعيتها، لأن شرعية الأنبياء السياسية مسألة اعتقادية، فطاعتهم طاعة لله متعينة: "من يطع الرسول فقد أطاع الله"
[20] وبيعتهم بيعة لله لازمة: "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله."[21] فحق الأنبياء في القيادة أمر مفروغ منه اعتقادا، وهو تولية من الله تعالى لا من الناس، ولذلك قال تعالى لداود: "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض."[22]
وفي قصة الرجل الأزدي ابن اللتبية دلالة واضحة على الفرق بين شرعية الانبياء السياسية وشرعية غيرهم، حيث ورد في القصة: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب الناس، وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني أستعمل رجالا منكم على أمور مما ولاني الله، فيأتي أحدكم فيقول: هذا لكم وهذه هدية أهديت لي، فهلا جلس في بيت أبيه وبيت أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا؟"
[23] وفي روايات أخرى: " قال: أما بعد، ما بال أقوام نوليهم أمورا مما ولانا الله،"[24] "أما بعد، فإني أستعمل رجلا منكم على أمور مما ولاني الله"[25] "إني استعملت أحدكم على العمل مما ولاني الله"[26]، "إنا نستعمل منكم رجالا على ما ولانا الله."[27] فأسند صلى الله عليه وسلم ولايته إلى الله مباشرة، لا إلى الناس. وبذلك يتضح أن نظرية "التفويض الإلهي" التي قال بها ملوك أوربا في العصور الوسيطة هي نظرية صحيحة في الإسلام بالنسبة للأنبياء فقط. أما غير الأنبياء فهم يستمدون شرعيتهم السياسية المباشرة من الخلق لا من الخالق، وكل ادعاء منهم باستمداد الشرعية السياسية من الخالق مباشرة إنما هي تضليل للخلق وافتراء على الخالق سبحانه..
أما الاعتبار اللغوي الذي نستند إليه في التمييز بين الشورى والمشاورة، فهو الصيغة الصرفية والإيقاع الصوتي: أما صرفيا فالأصل في الفعل على وزن "فاعَلَ" أن يكون مصدره القياسي على وزن "فِعال" مثل "قاتل قتالا" أو على وزن "مُفاعلة" مثل "شاور مشاورة." وبذلك نحمل آية آل عمران "وشاورهم في الأمر" على المشاورة، لا على الشورى. وأما الإيقاع الصوتي فرغم الاشتراك في الجذر اللغوي فإن لفظ الشورى يوحي بمعنى الانفتاح والتداول غير المحدود بين أطراف غير محدودة العدد أو الصفة، فناسب عملية بناء السلطة التي يشترك فيها الكل مع الكل. أما لفظ المشاورة فهو يوحي بالثنائية والتداول الحصري، فناسب مشاورة الحاكم لعدد محدود من الناس، أو لعموم الناس حول أمر محدد، لكن في عملية ذات طرفين فقط. وليس استعمالنا للإيقاع الصوتي هنا مجرد انطباع، فالإيقاع الصوتي لألفاظ القرآن الكريم له شأن أحيانا في مدلولاتها، كما بينه كل من الجرجاني والزمخشري من الأقدمين. وقد قدم سيد قطب من المعاصرين دراسة تطبيقية لذلك هي كتابه "التصوير الفني في القرآن"، فأتى بنظرات ثاقبة حول مدلول الجرس الصوتي لبعض ألفاظ القرآن الكريم.
الشورى في بناء السلطة واجبة وملزمة
كثيرا ما دار الجدل حول إلزامية الشورى وإعلاميتها، بمعنى هل يجب على الحاكم الالتزام بمقتضى رأي أغلب الناس في المسألة المتناولة أم لا. لكن هذا الجدل غالبا ما انطلق من خلط بين الشورى ذات الصلة ببناء السلطة، والمشاورة ذات الصلة بأدائها، فأدى إلى تشويش وبلبلة.
وبالانطلاق من هذا التمييز المنهجي تتضح الصورة أكثر: فالشورى ذات الصلة ببناء السلطة لا بد أن تكون ملزمة، وإلا فقدت مدلولها الشرعي وثمرتها المصلحية. وكل نصوص السنة في الموضوع تدل على وجوبها ابتداء وإلزاميتها انتهاء، بل تتوعد بأسوإ العواقب من يخرج على جماعة المسلمين بعد أن يستقر رأيهم على اختيار قائد يرضونه لدينهم ودنياهم، ومن يفتات عليهم في أمر اختيار قادتهم، وهذا أبلغ وأقوى تعبير عن إلزاميتها.
وأول ما يسترعي الانتباه هنا هو حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يترك لأمته حق اختيار قادتها، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو كنت مستخلفا أحدا دون مشورة لاستخلفت عليهم ابن أم عبد."
[28] وفي روايات أخرى: "لو كنت مستخلفا أحدا على أمتي دون مشورة لاستخلفت عليهم عبد الله بن مسعود"[29] و"لو كنت مؤمرا على أمتي أحدا دون مشورة منهم لأمرت عليهم ابن أم عبد."[30] وابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وقد جهِد النبي صلى الله عليه وسلم واجتهد لأمته نصحا، لكنه لم يلزمها باختيار شخص بعينه قائدا لها من بعده. لذلك روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "قيل يا رسول الله من نؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وإن تؤمروا عمرا تجدوه قويا أمينا لا يخاف بالله لومة لائم، وإن تؤمروا عليا -ولا أراكم فاعلين- تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم إلى الطريق المستقيم."
[31] فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا يزكي لأمته الأكفاء من أبنائها، لكنه يترك الأمر في أيديها بكل حرية، فهي صاحبة الحل والعقد والتأمير والعزل، كما هو واضح من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن تؤمروا... وإن تؤمروا". كل ما في الأمر أن على الأمة اتباع مبدأ الشورى عند اختيار القادة، ثم إلزام أولئك القادة بمبدإ المشاورة بعد اختيارهم، حتى يبقى الأمر بيد الأمة بدءا وختاما.
وقد اشتط الشيعة في دعواهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على خلافة علي رضي الله عنه، وهذا الحديث -وهو من رواية علي نفسه- يرد عليهم. كما اشتط بعض من ردوا على الشيعة من أهل السنة وادعوا أنه صلى الله عليه وسلم نص على أبي بكر بناء على حديث عائشة رضي الله عنها أنها "قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى اكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر."
[32] والحديث دليل صريح أن النبي صلى الله عليه قرر أن يترك للأمة خيارها في النهاية، وهو ليس صريحا في أنه صلى الله عليه وسلم كان يريد تضمين الكتاب النص على شخص أبي بكر رضي الله عنه، بل من الجائز أن يكون أراد كتابة مبادئ وإجراءات لاختيار الخليفة، لا تعيين اسم الخليفة. كما أن قوله: "ويأبى الله والمؤمنون..." يدل على أن اختيار المؤمنين قائدهم هو الأصل، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يرد مصادرة اختيارهم في نهاية المطاف، حتى وإن كان يرغب في أن يختاروا أبا بكر.
أما ربط بناء السلطة بالشورى فقد قال فيه عمر رضي الله عنه: "من بايع رجلا دون مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا"
[33]، "ألا من بايع رجلا دون مشورة من المسلمين فإنه لا يبايع لا هو ولا من بويع له تَغِرَّة أن يقتلا"[34]، "ألا وإنه بلغني أن فلانا قال لو قد مات عمر بايعت فلانا، فمن بايع امرأ دون مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له ولا للذي بايعه"[35]، وقول عمر: "لا خلافة إلا عن مشورة"[36]. ومن وصية عمر رضي الله عنه وهو على فراش الموت "ثم اجمَعوا في اليوم الثالث أشراف الناس وأمراء الأجناد فأمروا أحدكم، فمن تأمر من غير مشورة فاضربوا عنقه"[37] وفي رواية "تشاوروا ثم أجمعوا أمركم في الثلاث واجمعوا أمراء الأجناد، فمن تأمر منكم دون مشورة من المسلمين فاقتلوه"[38] وفي أخرى: "فمن تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه."[39] بل إن في تحذير النبي صلى الله عليه وسلم كفاية للمستكفي: "عن عرفجة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه."[40] ومن المعلوم أنه بدون الشورى لن يكون أمر الناس مجتمعا على رجل واحد.
وتدل هذه الأحاديث والآثار دلالة لا لبس فيها على وجوب الشورى المتعلقة ببناء السلطة، وعلى إلزامية نتيجتها، كما تدل على أن السلطة الشرعية قائمة على عقد اجتماعي مقدس هو البيعة الاختيارية من غالب الناس، وأن من خرق قدسية هذا العقد الاجتماعي المقدس فقد أهدر دمه. أما السلطة غير الشرعية فليست بقائمة على تعاقد، وليس لها من حرمة أو إلزام شرعي في رقاب الناس، بل هي من غليظ المنكر الذي يجب تغييره.
ولا يشترط الإجماع في اختيار الحاكم لتعذره عادة، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع من "منهاج السنة"، وإنما يكفي حصول أغلبية. بل هذا هو عمل الصحابة رضي الله عنهم. فقد اعترض على بيعة أبي بكر الصديق سعد بن عبادة مدة حياته، واعترض عليها علي بن أبي طالب مدة ستة أشهر، ثم بايع بعد ذلك "ولم يكن بايع تلك الأشهر."
[41] لكن ذلك لم يؤثر في شرعية قيادة الصديق ووجوب طاعته. كما اعترض على بيعة علي بن أبي طالب عدد من كبار الصحابة في المدينة - حصرهم البعض في سبعة عشر - واعترض عليها أهل الشام، ومع ذلك " فخلافته صحيحة بالاجماع، وكان هو الخليفة في وقته، لا خلافة لغيره."[42]
المشاورة في أداء السلطة دائرة بين الإلزام والاستعلام
وأما المشاورة ذات الصلة بأداء السلطة وتسييرها، فهي واجبة ابتداء، لكن نتيجتها قد تكون ملزمة للقائد المستشير، أو مجرد استعلام منه وتمحيص للرأي، قبل اتخاذ قراره بنفسه. وتدل السنة السياسية على أن النبي صلى الله عليه وسلم التزم دائما بنتيجة المشاورة في الأمور العامة إلا في حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون لديه وحي من الله من تعالى في الأمر، فليس له خيار سوى الإذعان، وليست مشاورته لأصحابه في هذه الحالة سوى إعلام وإقناع باتباع التوجيه الرباني في هذا الشأن. ومن أوضح الأمثلة على ذلك صلح الحديبية الذي أصر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، رغم رفض السواد الأعظم من أصحابه للصلح ابتداء، كما يتضح من قصة أم سلمة الآتية. وسبب رفض المسلمين لصلح الحديبية ابتداء هو أنه "كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا منه، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك."
[43] وقد كان عمر رضي الله عنه أرفع الناس صوتا برفض هذا الشرط الذي رآه ورآه المسلمون معه مجحفا: "فجاء عمر بن الخطاب فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا"[44] وفي رواية: "قال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري"[45] وفي روايات أخرى: " قال: إني رسول الله ولست أعصي ربي وهو ناصري"[46] "قال: إني رسول الله ولن أعصيَه ولن يضيعني."[47]
ومن الواضح من بعض روايات هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم لم يُصرَّ على الصلح يوم الحديبية عن رأي منه واجتهاد، ولا خالف عامة أصحابه عن استبداد بالرأي وانفراد، وإنما كان صلى الله عليه وسلم صادرا عن أمر إلهي ليس له أن يحيد عنه، وهو ما تنطق به عبارات الروايات الأخيرة التي أوردناها: "ولست أعصي ربي" "ولن أعصيه" "ولست أعصيه." فليس لمسلم من عامة الناس –فضلا عن خاتم الأنبياء- أن يعصي أمر الله تعالى مراعاة لخواطر الناس، أو حرصا على الأخذ بمشورتهم.
الحالة الثانية: إذا كانت عملية المشاورة قد اكتملت، واستقر رأي الجماعة على خيار بعينه، وصدر القرار بتبني ذلك الخيار، بحيث يصبح التراجع والتردد أمرا لا يحتمل، نظرا لما يترتب عليه من ظهور الضعف والتخاذل داخل الصف المسلم. ولعل قصة الخروج إلى قريش لقتالها عند جبل أحد تصلح مثالا هنا. فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم رأى السواد الأعظم من أصحابه بالخروج إلى أحد، ولم يكن ذلك رأيه، بل كان يرى المقام واتخاذ موقف دفاعي في المدينة. لكن حينما ندم بعض الناس على رأيهم الأول، وطلبوا منه الرجوع إلى موقفه الأول، أبى ذلك، لأنه ترددٌ يفضي إلى ظهور الضعف وعدم القدرة على الحسم لدى القيادة النبوية، وهو ما لا يجوز في حق القادة السياسيين والعسكريين الناجحين في أي زمان ومكان، فكيف بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وقد جاء رده صلى الله عليه وسلم معبرا: " لا ينبغي لنبي يلبس لأْمَته فيضعها حتى يحكم الله"
[48] وفي رواية: "ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد أن لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه."[49] والحق أن إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج إلى أحد بعد أن عزم أمره، ليس رفضا لرأي الأكثرين من أصحابه، بل هو إلزام لهم برأيهم الذي ارتأوه، وصيانة لقوة المسلمين وهيبتهم في نفوس أعدائهم، في وقت يوحي فيه التردد بالضعف والتخاذل، وهو أمر لا يحتمل في الحرب.
وكل من الحالتين متضمن في قوله تعالى: "فإذا عزمت فتوكل على الله"
[50] فقد وردت الآية بصيغة المتكلم: "فإذا عزمتُ" بضم التاء وإسناد العزم إلى الله تعالى[51] وهو ما يقضي بعدم اعتبار آراء الناس إذا ورد وحي يحسم الأمر. كما وردت الآية بصيغة المخاطب: "فإذا عزمتَ" بفتح التاء، وهو ما يقضي بأن أمر الجماعة إذا استقر على خيار بعينه، واتخذت قيادتها بذلك قرارا، فلا مجال للتراجع، لأن كل تراجع في هذه الحالة -خصوصا في أوقات الحرب- سيكون تخاذلا وضعفا في لحظة الحزم والحسم، وذلك هو "العزم والتبيُّن" الوارد في كلام الإمام البخاري الآتي. وقد امتثل صلى الله عليه لمعنى الآية - على القراءتين- يوم الحديبية ويوم أحد.
وقد أحسن الإمام البخاري إذ بوَّب لفقه هذه المسألة بإطناب فقال: "باب قول الله تعالى: وأمرهم شورى بينهم، وشاورهم في الأمر، وأن المشاورة قبل العزم والتبين، لقوله: فإذا عزمت فتوكل على الله. فإذا عزم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لبشر التقدم على الله ورسوله. وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أحد في المقام والخروج، فرأوا له الخروج فلما لبس لأمته وعزم قالوا: أقم، فلم يمل إليهم بعد العزم، وقال: لا ينبغي لنبي يلبس لأمته فيضعها حتى يحكم الله. وشاور عليا وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة، فسمع منهما حتى نزل القرآن فجلد الرامين، ولم يلتفت إلى تنازعهم، ولكن حكم بما أمره الله. وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تابعه بعدُ عمر، فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة إذ كان عنده حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه..."
[52]
ومهما يكن، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على التمييز بين الوحي الإلهي الذي لا سبيل إلى التعاطي معه غير الإذعان تعبدا لله تعالى وخضوعا، وبين اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، المنبثق من خبرته البشرية وتجربته في الحياة، وهو أمر يخضع للنقاش والتداول، ومن حقهم مناقشته فيه، وإبداء آرائهم التي قد تكون أقرب إلى الصواب السياسي أو العسكري. ومن أجل هذا التمييز سأله قادة الأنصار حين عرض عليهم الصفقة مع غطفان: "يا رسول الله أوحي من السماء فالتسليم لأمر الله؟ أو عن رأيك أو هواك فرأينا تبع لهواك ورأيك؟ فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما ينالون منا تمرة إلا بشِرىً أو قرىً."
[53] ومن قبل سأل الحباب بن المنذر رضي الله عنه يوم بدر: " يا رسول الله أهذا منزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة."[54]
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يجد غضاضة في تغيير رأيه حين يتبين الصواب السياسي أو العسكري عند غيره، كما فعل في قضية المنزل يوم بدر، والصفقة مع غطفان يوم الأحزاب. وقد تكشف من نتائج معركة بدر أن الحباب كان مصيبا في نظره العسكري، كما هزم الله جيش الأحزاب في النهاية دون أن يخسر الأنصار ثمار نخيلهم.
ولبعض الفقهاء المعاصرين رأي مستحدَث في لزوم الأخذ برأي الأغلبية في المشاورة، فهو يرى أن الأغلبية الملزمة للحاكم هي الثلثان فقط، لا أقل من ذلك. ودليله حديث ابن غنم الأشعري "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما"
[55] وهو حديث ضعيف على أية حال. فأبو بكر وعمر -في تحليل هؤلاء- يمثلان أغلبية الثلثين، إذا كانا مع النبي صلى الله عليه وسلم. لكن هذا الرأي –على طرافته- لا يمنع قبول رأي الأغلبية التي تقل عن الثلثين. وربما لو دقق أهل هذا الرأي الحساب لوجدوا أن الأغلبية من أصل ثلاثة لا يمكن تصورها في أقل من اثنين، فاثنان من أصل ثلاثة أغلبيةُ ثلثين، وأغلبيةٌ مطلقة، وأغلبية بسيطة، في ذات الوقت.
والذي نفهمه من مجمل النصوص التي اطلعنا عليها في هذا الشأن أن الشورى في بناء السلطة واجبة ابتداء ملزِمة انتهاء، كما بينا من قبل، وأن المشاورة فيها تفصيل:
* فهي واجبة ونتيجتها ملزمة في الأمور العظيمة التي لا تدخل في اختصاصات الحاكم، نظرا لخطورتها وتأثيرها على مجمل الأمة، كإعلان الحرب، وإبرام الصلح...الخ ولذلك نزل النبي صلى الله عليه وسلم عند رأي الأغلبية الراغبة في قتال قريش عند سفح أحد. وقد جاء الفقه الدستوري المعاصر منسجما مع الفعل النبوي هنا، فمنع السلطة التنفيذية من اتخاذ مثل هذه القرارات المصيرية دون موافقة البرلمان أو استفتاء الشعب بعامة، وهذا أمر منصوص عليه في دساتير كل الدول الديمقراطية اليوم..
* وفي الأمور التي تدخل في صلاحيات الحاكم التنفيذية، والتي لا يستطيع أداء مهمته دونها، كتعيين رجال الدولة التابعين له وعزلهم، فالمشاورة واجبة لكن نتيجتها غير ملزمة له. فبيعة الأمة له تقضي له بحق التصرف في هذه الأمور، والأمة تراقب وتصحح. وليس ذلك بمانع أن يتم تقييده في بعض هذه الأمور لحيوتها، فيكون له اختيار وزرائه وولاته وقادة جيشه مثلا، ثم يقر البرلمان هذا الاختيار قبل نفاذه، كما جرى العرف في بعض الدول اليوم، حتى يكون القرار مركبا، يعبر عن صلاحيات الحاكم ورقابة الأمة في ذات الوقت.
* أما في الأمور الشخصية التي يتحمل الفرد مسؤوليتها ونتيجتها حصرا، فالمشاورة فيها غير واجبة، ونتيجتها غير ملزمة، ولكنها مستحبة للمسلم تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي استشار في أمور عائلية خاصةٍ بعض أقاربه وأحبائه، كعلي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما. والمشاورة بهذا المعنى تخرج عن نطاق بناء السلطة وأدائها، فهي ليست فعلا سياسيا، بل حكمة أخلاقية، تفيد الفرد في حياته الشخصية.نماذج من المشاورات النبوية
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثير المشاورة، حتى روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قوله: "ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم."
[56]
ومن مشاورات رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه - تمثيلا لا حصرا- ما يلي:
أولا: مشاورته الأنصار في قتال قريش يوم بدر: عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر، استشار المسلمين فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه، ثم استشارهم فأشار عليه عمر رضي الله عنه، ثم استشارهم فقالت الأنصار: يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: إذن لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون"، والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى بَرْك الغِماد لاتبعناك."
[57] وفي رواية: "فاستشار المسلمين، فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه فسكت، ثم استشار فأشار عليه عمر رضي الله عنه فسكت، فقال رجل من الأنصار إنما يريدكم."[58] وفي روايات أخرى: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور، حين بلغه إقبال أبي سفيان. قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة [أحد قادة الأنصار] فقال : إيانا تريد؟ يا رسول الله! والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نُخيضها البحر لأخضناها. ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برْك الغماد لفعلنا"[59] "فقال قائل الأنصار: تستشيرنا يا نبي الله..."[60] "فقالت الأنصار: والله ما يريد غيرنا..."[61]
ثانيا: مشاورته في أسرى بدر، هل ينبغي قتلهم أم قبول الفداء منهم: "فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قلت: لا والله! ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان (نسيبا لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهْوَ ما قلت..."
[62] وفي رواية:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر وعلي: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ ..."[63] ومثلها: "... فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعليا وعمر رضي الله عنهم"[64] وفي رواية أخرى بصيغة أعم: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟"[65] أو "ما ترون في هؤلاء الأسارى؟"[66] دون قصر ذلك على أبي بكر وعمر وعلي، بل وردت الاستشارة عامة لجميع الحضور من الصحابة. ورواية الطبراني أصرح في ذلك إذ ورد فيها: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسارى استشار فيهم الناس..." بل فيها: "فجمع أصحابه فقال لهم أشيروا علي فيهم."[67]
ثالثا: مشاورته الناس في الخروج إلى قريش لقتالها عند جبل "أُحد"، أو انتظارها في المدينة، واعتماد خطة دفاعية لصدها، "وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه المشركون يوم أحد كان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم بالمدينة يقاتلهم فيها، فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدرا: تخرج بنا يا رسول الله إليهم فنقاتلهم بأحُد، ونرجو أن نصيب من الفضيلة ما أصاب أهل بدر. فما زالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لبس أداته فلما لبسها ندموا وقالوا: يا رسول الله أقم فالرأي رأيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد أن لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه..."
[68] و"عن جابر بن عبد الله قال استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم أحد فقال: ... فلو قاتلتموهم في السكك، فرماهم النساء من فوق الحيطان، قالوا: فيدخلون علينا المدينة؟ ما دُخلتْ علينا قط، ولكن نخرج إليهم، قال: فشأنَكم إذن. قال [الراوي]: ثم قدموا قالوا رددنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا رسول الله رأيَك. فقال: ما كان لنبي أن يلبس لأمته ثم يخلعها حتى يقاتل..."[69]
رابعا: مشاورته قادة الأنصار في التنازل لقبيلة غطفان عن نصف تمر المدينة على أن تنسحب غطفان من جيش الأحزاب الذي يحاصر المدينة يومذاك: "عن أبي هريرة قال: جاء الحارث الغطفاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد شاطرنا تمر المدينة، قال [صلى الله عليه وسلم]: حتى أستأمر السُّعود، فبعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وسعد بن الربيع وسعد بن خيثمة وسعد بن مسعود رحمهم الله، فقال: إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وإن الحارث يسألكم أن تشاطروه تمر المدينة، فإن أردتم أن تدفعوا إليه عامكم هذا حتى تنظروا في أمركم بعدُ. قالوا: يا رسول الله أوحيٌ من السماء فالتسليم لأمر الله؟ أو عن رأيك أو هواك فرأينا تبع لهواك ورأيك؟ فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما ينالون منا تمرة إلا بشِرىً أو قرىً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لغطفان]: هو ذا تسمعون ما يقولون... "
[70] وفي لفظ آخر: " جاء الحارث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ناصفنا تمر المدينة وإلا ملأتها عليك خيلا ورجالا. فقال: حتى أستأمر السعود: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، يعني يشاورهما، فقالا: لا والله ما أعطينا المدينة من أنفسنا في الجاهلية، فكيف وقد جاء الله بالاسلام. فرجع إلى الحارث فأخبره."[71]
خامسا: مشاورته علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد في فراق عائشة رضي الله عنها أثناء محنة الإفك. قالت عائشة: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله. فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الودِّ لهم، فقال أسامة: أهْلَكَ يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير..."
[72] ثم مشاورته جمهور الناس في المسجد حول طريقة الرد على الذين جاءوا بالإفك: "عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما تشيرون عليَّ في قوم يسبون أهلي، ما علمت عليهم من سوء قط ..."[73] وفي رواية: "أما بعد، أشيروا عليَّ في أناس أبَنُوا أهلي، وايم الله ما علمت على أهلي من سوء، وأبَنُوهم بمنْ -والله- ما علمت عليه من سوء قط، ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر، ولا غبت في سفر إلا غاب معي."[74]
وضع المشاورة في موضعها
يتبين من الأمثلة أعلاه أن حدود المشاورة هي ما يمليه الموقف وتقتضيه المصلحة، وأنها يمكن أن تكون عامة أو خاصة، في أمر عام أو خاص:
- ففي الخروج إلى قتال قريش عند جبل أحد، أو قتالها داخل المدينة، استشار النبي صلى الله عليه وسلم جميع الناس، لأنها مهمة عامة تحتاج إلى مشاركة الجميع بالرأي والتنفيذ. فالدفاع عن المدينة واجب الجميع، والنصر أو الهزيمة في ذلك يشملان الجميع، فكان من حق الجميع الإدلاء برأيهم في الاستراتيجية العسكرية الملائمة لتلك المهمة. فجاءت الاستشارة النبوية عامة مطلقة.
- وفي قتال قريش يوم بدر استشار النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار خاصة، وأعرض عن كلام أبي بكر وعمر، لأن الأنصار لم تربطهم بنبي الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بيعة قتالٍ خارج المدينة، وإنما كانوا ملتزمين - بمقتضى بيعة العقبة الثانية- بحمايته داخل المدينة، فكان لابد من أخذ رأيهم والتأكد من رضاهم بالتزام جديد زائد عن بنود بيعة العقبة. والنبي صلى الله عليه وسلم "كان يتخوف [من الأنصار] أن لا يوافقوه، لأنهم لم يبايعوه إلا على نصرته ممن يقصده [داخل المدينة] لا أن يسير بهم إلى العدو."
[75]
- وفي بذل نصف تمر المدينة لغطفان لم يستشر سوى قادة الأنصار، لأن الأنصار هم أهل الأرض ومُلاَّك النخيل، وهم الذين سيتحملون عبء تلك الصفقة لو كانت تمت. أما المهاجرون فقد أُخرجوا من ديارهم وأموالهم وتركوها خلفهم بمكة، فلا شأن لهم بأمر الأرض والنخيل في المدينة..
- وفي قضية أسرى بدر جمع بين المشاورة العامة والخاصة، فاستشار الجيش كله، لأن لجميع أفراده حقا في الأسرى، واختص أبا بكر وعمر وعليا بمشاورة خاصة، لأن الأسرى من قريش، وفيهم إخوان للمهاجرين وأبناء عمومة وأقارب، فلا يحسن التصرف في رقابهم دون استبيان مشاعر المهاجرين حول هذا الأمر. ولذلك قال أبو بكر: "يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة."
- ونفس الجمع بين المشاورة العامة والخاصة فعله في قضية الإفك، فاستشار أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب في فراق عائشة، فهذا ابن عمه وذاك مولاه، وحري بقضية عائلية مثل هذه أن تظل في محيطها الخاص. أما الجانب العام من الأمر وهو طريقة الرد على الذين جاءوا بالإفك، فقد خطب عموم الناس في المسجد واستشارهم فيهم، لأنها قضية سياسية عامة تتعلق بمقام النبوة وقيادة المجتمع المسلم، وخطر إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.
لكن عموم اللفظ الذي ورد به الأمر بالمشاورة في القرآن الكريم، وأكثر التطبيقات النبوية تدل على أن الأصل في المشاورة في الأمور العامة هو العموم. وقد حاول بعض المفسرين أن يقصر مدلول آية المشاورة على أبي عمر وعمر، لكن عموم اللفظ لم يسعفهم. وقد أحسن القاضي أبو بكر بن العربي في الرد عليهم، فقال: "المراد بقوله: "وشاورهم في الأمر" جميع أصحابه، ورأيت بعضهم قال: المراد به أبو بكر وعمر، ولعمْر الله إنهما أهل لذلك وأحق به، ولكن لا يقصر عليهما، فقصره عليهما دعوى."
[76]
ولعل أحسن ضابط هنا حول من تشملهم الشورى والمشاورة، هو ذلك الذي يمكن استنباطه من التعبير القرآني: "وأمرهم شورى بينهم"، فكل من كان الأمر أمره، بمعنى أنه معني بذلك الأمر، متأثر بنتائج القرار السياسي الذي سيتخذ حول ذلك الأمر، فإن من حقه الإسهام في المشورة، سواء أصالة أو نيابة. وقد رأينا كيف حرص صلى الله عليه وسلم على أن يكون المعنيون بكل أمر، المتحملون ثمن القرار السياسي، المتأثرون بثمراته ومآلاته، أول من تتم استشارتهم فيه، مثل المهاجرين في أمر أسرى بدر، والأنصار في أمر تمر المدينة. ومن هنا يتبين أن الشورى ذات الصلة ببناء السلطة لا بد أن تكون عامة، نظرا لتأثر حياة الجميع بنوعية القيادة التي ستقودهم. فاختيار قيادة الدولة أمر عام بطبيعته، فالشورى فيه عامة بداهة. ويشمل ذلك باصطلاحنا المعاصر، حق جميع البالغين رجالا ونساء في التصويت لانتخاب قادة الدولة.
أما المشاورة ذات الصلة بأداء السلطة بعد بنائها، فهي قد تعم أو تخص، أو تأتي تركيبا من العموم والخصوص. إذ قد تكون آثار القرار السياسي عامة فتتعين المشاورة العامة، وقد تكون آثاره محصورة في جزء مخصوص من المجتمع، فتنحصر المشاورة في هذا الجزء من المجتمع. وقد تكون نتائج القرار السياسي مؤثرة على الجميع، لكنها أبلغ تأثيرا على بعض دون بعض، فيتعين التركيب بين المشاورة العامة والخاصة.
تخصيص أهل الخبرة والمكانة بالمشورة
ورد عن عمر رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يسمر في الأمر من أمر المسلمين مع أبي بكر رضي الله عنه، وأنه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه."
[77] وقد أكثر النبي صلى الله عليه وسلم من استشارة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وعُرف عنهما "ملازمتهما للنبى في مدخله ومخرجه وذهابه"[78] حتى غبطهما أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على ذلك -وحق له أن يغبطهما- فقال: "حسبت أني كنت كثيرا أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر."[79] وقد أحسن العلامة علي القاري في توصيف العلاقة الشخصية والسياسية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكروعمر رضي الله عنهما، فقال: "كانا وزيريه في حال حياته، وصارا ضجيعيه بعد مماته."[80] فليس بمستغرب أن تم تخصيص أبي بكر وعمر باستشارات كثيرة من دون الناس.
وقد اختص النبي صلى الله عليه وسلم قادة الأنصار -مثل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة- بالاستشارة في بعض الأمور التي تخص الأنصار، كمصالحة غطفان على نصف (أو ثلث) تمر المدينة. ويمكن أن نفهم هذا الاختصاص بالمشورة لأبي بكر وعمر وللسعدين من وجهة نظر دستورية على وجهين:
أولهما: أن نعتبر أبا بكر وعمر نائبين عن المهاجرين، والسعدين نائبين عن الأنصار. وفكرة التمثيل والنيابة في المشاورة لها أصل في السنة، ومن أمثلتها بيعتا العقبة، وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عرفاء الناس عن رأيهم في التنازل لهوازن عن سبيهم لما جاؤوا تائبين بعد غزوة حنين. وقد بوب البخاري لهذه القصة: "باب العرفاء للناس" وأورد فيها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أذن لهم المسلمون في عتق سبي هوازن: إني لا أدري من أذن في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤُكم أمرَكم. فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أن الناس قد طيَّبوا وأذِنوا"
[81] و"العرفاء مقام الوكلاء"[82]، وهو ما نسميه باصطلاحنا المعاصر بنواب الشعب من أعضاء البرلمانات ومجالس الشوري.
وثانيهما: أن نعتبر أبا بكر وعمر والسعدين من أهل العلم والخبرة، فاختصاصه صلى الله عليه وسلم لهم بالمشاورة مبني على خبرتهم وعلمهم، لا أنهم ممثلون لعامة الناس من ورائهم. ويشهد لهذا الفهم أن أبا بكر وعمر –على خلاف السعدين- لم يكونا من زعماء قريش قبل الإسلام، ولا هما ينتميان إلى بيوت القيادة في قريش. كما يشهد له عمل عمر رضي الله عنه. قال البخاري رحمه الله: "كان القراء أصحاب مشورة عمر كهولا أو شبانا، وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل."
[83] فعمر كان يختص طائفة من المسلمين بالاستشارة أحيانا، ويصغي إليهم أكثر مما يصغي إلى غيرهم، لعلمهم بكتاب الله عز وجل، الذي هو الأصل والمرجع عند الملمات. وهذا ما يزكي الرأي القائل باختصاص أهل العلم والخبرة باستشارة خاصة.
والذي يظهر من الجمع بين النصوص أن لا تناقض: فاختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بعض أهل العلم والثقة والخبرة موجود في السنة، لكنه لا يناقض حق عموم المسلمين في المشاورة. وإنما هو جمع بين المشاورة العامة والخاصة. ويصار إلى المشاورة الخاصة -نيابة عن العامة- إذا فرضت ذلك ظروف عملية تمنع من استبيان رأي الجميع، كما حدث في شأن سبي حنين. كما يصار إليها حين تقتضي طبيعة الموضوع الاقتصار على بعض دون بعض لأن الأمر يهمهم أكثر، أو لما لديهم من علم وخبرة مكنونة، أو لحساسية الموضوع من الناحية السياسية والأمنية.
مشاركة النساء: "إني من الناس"...
ومن عموم الشورى والمشاورة أنهما تشملان الرجال والنساء معا. وقد اختلف المفسرون في جمع المذكر -مثل صيغة "وشاورهم في الأمر" "وأمرهم شورى بينهم" - إن ورد في القرآن الكريم هل يشمل الرجال والنساء أم لا.. لكن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي قدم قرينة على خروج آية المشاورة من هذا الخلاف، طبقا لمنهجه في "إيضاح القرآن بالقرآن"، حيث بيَّن أن الأمر بالاستغفار الوارد في آية المشاورة: "فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر" يشمل الرجال والنساء بصريح قوله تعالى: "فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات."
[84] وشمول أحد الأوامر الواردة في آية المشاورة –وهو الاستغفار- للنساء يقضي بشمول الأوامر الأخرى لهن -بما فيها المشاورة- بدلالة الاقتران والتعاطف. ونفس الشيء ينطبق على آية الشورى: فإذا كان النساء داخلات بلا خلاف في تلك الصفات التي امتدح بها الخالق سبحانه عباده المؤمنين من الاستجابة لله، وإقام الصلاة، والانفاق في سبيل الله، فتلك قرينة كافية على دخولهن في الصفة الرابعة وهي الشورى: "وأمرهم شورى بينهم."
وبالنظر في السنة السياسية، نجد ما يدعم عموم المشاورة للنساء والرجال على حد السواء. فإذا كان العلماء اختلفوا في شمول جمع المذكر للنساء، فإنهم لم يختلفوا في دخولهن تحت مدلول لفظ "الناس" وهو أكثر ما استعمل في أحاديث المشاورة: "أشيروا علي أيها الناس" "فاستشار الناس" ..الخ وفي تصحيح أم المؤمنين أم سلمة لجاريتها دليل طريف على ذلك، فعن أم سلمة: "... سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس، فقلت للجارية: استأخري عني، قالت: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء، فقلت: "إني من الناس."
[85] وقد أورد العلامة ابن حزم هذا الحديث، ثم علق على دلالته في موضوعنا هذا بحجاج تذعن له العقول، فقال: "في هذا بيان دخول النساء مع الرجال في الخطاب الوارد بصيغة خطاب الذكور... فإن قالوا [أي المعارضون لهذا التعميم]: قد تيقنا أن الرجال مرادون بالخطاب الوارد بلفظ الذكور ولم نوقن ذلك في النساء فالتوقف فيهن واجب، قيل لهم: قد تيقنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهن كما هو إلى الرجال، وإن الشريعة التي هي الإسلام لازمة لهن كلزومها للرجال، وأيقنا أن الخطاب بالعبادات والأحكام متوجه إليهن كتوجهه إلى الرجال إلا ما خصهن أو خص الرجال منهن دليل، وكل هذا يوجب ألا يُفرَد الرجال دونهن بشيء قد صح اشتراك الجميع فيه إلا بنص أو إجماع."[86]
وقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم زوجه أم سلمة يوم الحديبية، ووجد فيما أشارت به تداركا للموقف وإنقاذا للمسلمين من الهلَكة. وذلك حين "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا. قال [الراوي]: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بُدْنك وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا..."
[87]
وسواء كان ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة رضي الله عنها على سبيل المشاورة -كما نفهم من السياق- أو لمجرد الإعلام، فإن أخذه بمشورتها فيه دلالة كافية على دخول المرأة المسلمة في عموم المشاورة، وقيمة خبرتها ورأيها في الشأن العام، وكيف يتجاهل عاقل رأيا أنقذ خير أمة أخرجت إلى الناس من الهلكة؟
وأخيرا ربما يحسن بنا أن نختم هذه الرسالة ببيتين للشاعر بشار بن برد، كما بدأناها ببيتين لبشر بن ناشب. فرغم ما عرف به بشار – والله يغفر له- إلا أنه عبر في هذين البيتين عن ثقافة إسلامية متحضرة، لا تحتقر الشورى كما احتقرتها جاهلية القبائل، بل تدرك ضرورتها وثمرتها:
إذا بلغ الأمر المشورة فاستــعن *** برأي نصيح أو مشورة حازمِ
ولا تحسب الشورى عليك غضاضةً *** فإن الخوافي قوة للقــوادمِ
[88]
أما "الخوافي" فالريش في مؤخرة جناح الطير، وأما "القوادم" فالريش في مقدمة الجناح، والمعنى أن آراء الرعية عُدة وقوة للقائد، فلا يجوز أن يحقر آراءهم أو يتجاوزها، فلن ُيقلع الطائر في آفاق السماوات بقوة قوادمه دون دعم وسند من خوافيه. "قال الأصمعي فقلت لبشار: إني رأيت رجال الرأي يتعجبون من أبياتك في المشورة، فقال: أما علمت أن المشاوِر من إحدى الحسنين: بين صواب يفوز بثمرته أو خطإ يُشارَك في مكروهه. فقلت: أنت والله أشعرُ في هذا الكلام منك في الشعر"
[89]
فلتكن هذه خاتمتنا، آملين أن يقهر الحق القوة، ويهزم العقل الجهالة، ويسود العدل والحرية، وينتصر بيتا بشَّار على بيتيْ بِشر في نهاية المطاف...
[1] البيتان لسعد بن ناشب على المشهور من أقوال مؤرخي الأدب، انظر مثلا ابن قتيبة: الشعر والشعراء 1149، وإن كان التنيسي نسب البيت الأول منهما إلى مالك بن الريب. انظر التنيسي: المنصف للسارق والمسروق منه ص 136. وقد أورد البيتين أبو حيان ضمن تفسيره آية المشاورة. أبو حيان: البحر المحيط 3/410
[2] الذهبي: سير أعلام النبلاء 4/13
[3] سورة القصص، الآية 26
[4] ابن حجر الإصابة 4430
[5] ابن حجر: الإصابة 2/451 وقال: "إسناده حسن"
[6] البخاري 41592 وابن ماجه 148
[7] ابن تيمية: السياسة الشرعية 16-17 وحول حديث :"اللهم إني أبرأ إليك …" انظر البخاري 4/1577 و6/2628 وصحيح ابن حبان 11/53 والبيهقي: السنن الكبرى 9/115 والنسائي: السنن الكبرى 3/474، وعبد الرزاق: المصنف 10/174 أما حديث :"يا أبا ذر … " فقد رواه مسلم 3/1457 والبيهقي في الكبرى 3/129 وفي شعب الإيمان 6/45 والنسائي في الكبرى 4/112 وفي المجتبى 6/255 والبزار 9/435
[8] الذهبي: سير أعلام النبلاء 1/369
[9] ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 5/322
[10] ابن تيمية: منهاج السنة 4/487
[11] منهاج السنة 7/452
[12] منهاج السنة 4/279
[13] الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/502
[14] ابن تيمية: مجموع الفتاوى 4/455
[15] ابن تيمية: الخلافة والملك ص 36
[16] ابن حجر: الإصابة 1/414
[17] نفس المصدر والصفحة
[18] سورة الشورى، الآية 38
[19] سورة آل عمران، الآية 159
[20] سورة النساء، الآية 80
[21] سورة الفتح، الآية 10
[22] سورة ص، الآية 26
[23] البخاري 6/2632
[24] ابن حبان 10/373
[25] أبو عوانة 4/391
[26] عبد الرزاق 4/54
[27] الطبراني في الأوسط 7/359 وفي الصغير 2/90
[28] رواه الحاكم في المستدرك 3/359 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"
[29] النسائي 5/73
[30] الطبراني في الأوسط 6/272 والبزار 3/73 وأحمد 1/107. وانظر أيضا في اختلاف ألفاظ الحديث: الترمذي 5/673 وابن أبي شيبة 6/384 والبزار 3/83 وأحمد 1/76 و1/95
[31] عبد الله بن أحمد بن حنبل: كتاب السنة 2/541 وقال محققه د. محمد سعيد القحطاني: إسناده حسن" والمقدسي: الأحاديث المختارة 2/86 وقال محققه عبد الملك بن دهيش: "إسناده صحيح"، وذكر ابن حجر أن الحديث "في مسند أحمد بسند جيد"، انظر الإصابة 2/50
[32] مسلم 41857 وابن حبان 14564 والنسائي 4253 والحاكم 3542
[33] البخاري 6/2505 وعبد الرزاق 5/445
[34] البزار 1/302
[35] ابن حبان 2/148
[36] النسائي 4/272 وابن أبي شيبة 7/431
[37] البيهقي في الكبرى 8/151
[38] عبد الرزاق 5/481
[39] صحح إسناده ابن حجر، انظر فتح الباري 7/8
[40] مسلم 31480 والطبراني في الكبير 17/145 وأبو عوانة 4/412
[41] البخاري 5/1549 ومسلم 3/1380 وابن حبان 11/153
[42] النووي: شرح صحيح مسلم 15/149
[43] البخاري 2/967
[44] البخاري 3/1411 والبيهقي 9/222 والنسائي 6/463 وابن أبي شيبة 7/385 وأحمد 3/485 وأبو يعلى 1/365 والطبراني في الكبير 6/90 وأبو عوانة 4/296
[45] البخاري 2/978 والبيهقي في الكبرى 9/220 وعبد الرزاق 5/339 وأحمد 4/330 والطبراني في الكبير 20/14
[46] ابن حبان 11/224
[47] ابن أبي شيبة 7388
[48] البخاري 6/2682 و" اللأمة الدرع وجمعها لؤم... ومنها قيل: قد استلأم الرجل إذا لبسها فهو مستلئم" القاسم بن سلام: غريب الحديث 4327
[49] الحاكم 2141 والبيهقي 741
[50] سورة آل عمران، الآية 159
[51] تفسير البيضاوي 1/300
[52] البخاري 6/2682 وانظر أيضا ابن حجر: تغليق التعليق 5/330
[53] الطبراني في الكبير 628 وأبو نعيم: معرفة الصحابة 31251 وقال الهيثمي " ورجال البزار والطبراني فيهما محمد بن عمرو وحديثه حسن وبقية رجاله ثقات" انظر الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 6133
[54] ابن هشام: السيرة النبوية 3 167 وابن حزم: جوامع السيرة ص 112
[55] أحمد 4/227 وقال الهيثمي: "رجاله ثقات إلا أن ابن غنم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم" الهيثمي 9/53 كما ضعفه الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" الحديث رقم 1008.
[56] سنن الترمذي 4/213 ونحوه في سنن البيهقي الكبرى 9/218 ومصنف عبد الرزاق 5/331 ومسند أحمد 4/328 وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 13/340: "رجاله ثقات إلا أنه منقطع" وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه 2/387: "فيه انقطاع".
[57] البيهقي في الكبرى 10/109 والنسائي 5/92 وأحمد 3/105 وصحح إسناده الذهبي في المهذب 8/4098 والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، الحديث رقم 3340.
[58] أبو يعلى 6/407 وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، الحديث رقم 3340: "صحيح على شرط الشيخين"
[59] مسلم، الحديث رقم 1779، وأحمد 3/257
[60] أحمد 3/188
[61] ابن حبان 11/23
[62] مسلم 31385 وعبد بن حميد 1/41 ونحوه عند أبي عوانة 4/255 والبزار 1/307
[63] ابن حبان 11/115 والبيهقي في الكبرى 6/320
[64] أحمد 1/30
[65] الحاكم 324 والترمذي 4/213 والبيهقي 6/321 وابن أبي شيبة 6/496
[66] أبو يعلى 9116
[67] الطبراني في الكبير 10/114
[68] صحح إسناده ابن حجر في تغليق التعليق 5/330 وحسنه في فتح الباري 13/341
[69] النسائي 4/389 وانظر أيضا البيهقي 7/41 ومسند أبي عوانة 4/358
[70] الطبراني في الكبير 6/28 وقال الهيثمي: "رواه البزار والطبراني... ورجال البزار والطبراني فيهما محمد بن عمرو وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات" مجمع الزوائد 6/132
[71] مجمع الزوائد 6/132
[72] البخاري 2/499 ومسلم 4/2133 وابن حبان 10/17 والنسائي 2/495 وأحمد 6/196 والطبراني في الكبير 23/53 وعبد الرزاق 4/415 وأبو يعلى 8/327
[73] البخاري 6/2683
[74] البخاري 4/1780 ومسلم 4/2138 والترمذي 5/332 وأبو يعلى 8/336 وأحمد 6/59 والطبراني في الكبير 23/106. وأبَنوا أهلي "معناه عابوا أهلي أو اتهموا أهلي وهو المعتمد، لأن الأبن بفتحتين التهمة. وقال ابن الجوزي المراد رموا أهلي بالقبيح." فتح الباري 8/470
[75] فتح الباري 7287
[76] ابن العربي: أحكام القرآن 1/299
[77] الحاكم 2/246 والبيهقي 1/452 والترمذي 1/315 وأحمد 1/25 وابن خزيمة 2/186 وأبو يعلى 1/173 وحسنه الترمذي، وقال ابن حجر: "أخرجه الترمذي والنسائي ورجاله ثقات ...إلا أن في إسناده اختلافا على علقمة" فتح الباري 1/213 وصححه الشيخ مقبل الوادعي بصيغة أخرى في كتابه: "الجامع الصحيح" 2/564.
[78] كتب ورسائل وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4424
[79] البخاري 31348 ومسلم 41858 وابن ماجه 137 والنسائي في السنن الكبرى 539 وفي فضائل الصحابة 17
[80] بدر الدين العيني: عمدة القاري شرح صحيح البخاري 8222
[81] البخاري 6/2625 والألباني: صحيح سنن أبي داود (الحديث رقم 2342) وعبد الرزاق 5/380
[82] يوسف بن موسى الحنفي: معتصر المختصر 1/235
[83] البخاري 6/2682
[84] سورة محمد، الآية 19
[85] مسلم 4/1795
[86] ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام 3341-342
[87] البخاري 2/978 وابن حبان 11/225 والبيهقي في الكبرى 5/215 وأحمد 4/330 والطبراني في الكبير 20/14
[88] الجاحظ: البيان والتبيين 1582
[89] أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني 3211